الهجرة النبوية عند أهل الصوفية.. بقلم الدكتور سيد مندور_مصر

 

في أول كل عام هجري يكثر الحديث عن هجرة الرسول الكريم صلوات الله وسلامه عليه ولا يعدو الحديث في الغالب أن يكون قصصاً تاريخياً يستمع إليه الناس ثم يُترك وينسى دون أن يكون له أثر في النفوس .

فليس المقصود الحديث عن الهجرة بأسلوب قصصي وسرد تاريخي ثم يتناسى الناس هذه الذكرى ولا يكون لها أثر في النفوس أو تأثير في السلوك فإن كثيراً ممن يتحدثون عن الهجرة فى كل عام لا يفقهون معناها والمعنى الحقيقى منها فإذا نظرنا إلى المعنى الحقيقى للهجرة فنجد أن معناها فى اللغة : هى مفارقة الإنسان غيره ببدنه أو بلسانه أو بقلبه.

ومعناها شرعاً : هو مفارقة بلاد الكفر أو مفارقة الأشرار أو مفارقة الأعمال السيئة والخصال المذمومة.

والمعنى الذي حدده رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم للهجرة ما جاء فى الحديث الشريف : “المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده، والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه”.

أي ترك ما نهى الله عنه من الأعمال والأخلاق والأقوال والمآكل والمشرب الذى حرمه الله عز وجل والنظر المحرم والسماع كل هذه الأمور يجب الابتعاد عنها وهجرها .

ولذلك كانت الهجرة عند الأنبياء :
فنرى إبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام حيث قال : “إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ” [الصافات:99]، أي مهاجر من أرض الكفر إلى الإيمان وقد هاجر عليه السلام ببعض ذريته إلى الشام حيث البلاد المقدسة والمسجد الأقصى ثم إلى البلد الحرام والبيت العتيق كما جاء في دعائه لربه :
”رَّبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّم” [إبراهيم:37] .
وقد هاجر نبي الله لوط .. وهاجر سيدنا موسى الكليم ومن معه من بطش فرعون وجنوده وهكذا سائر الأنبياء والمرسلين .
صور من هجرة بعض الصحابة رضوان الله عليهم :
أول من هاجر من الصحابة إلى المدينة :
أبا سلمة بن عبد الأسد كان أول من هاجر من صحابة الرسول الكريم إلى المدينة فتوجه إليها قبل بيعة العقبة بسنة وذلك بعدما أذتة قريش إثر عودته من هجرة الحبشة .

وقد روت أم المؤمنين السيدة أم سلمة رضي الله عنها : أن أبو سلمة هاجر إلى المدينة على بعيرة وأخذ زوجته وأبنة سلمة وحينما أستوقفهم رجال بني المغيرة بن عبد الله وبنى عمرو ابن مخزوم وسخروا منه وقاموا بنزع حطام البعير ثم أحتجزوا أبنه سلمة وزوجتة فلم يتراجع عن الهجرة بل تحمل فراقهم وأكمل مسيرتة حتى وصل إلى المدينة .
وكذلك فى هجرة سيدنا صهيب الرومى فقد ظل صهيب بعد هجرة الرسول صلى الله عليه وسلم وصاحبه يتحين الفرص للحاق بهما فلم يفلح إذ كانت أعين الرقباء ساهرة عليه متيقظة له فلم يجد سبيلاً غير اللجوء إلى الحيلة ففي ذات ليلة باردة أكثر صهيب من الخروج إلى الخلاء كأنه يقضي الحاجة فكان لا يرجع من قضاء حاجته حتى يعود إليها ، فقال بعض رقبائه لبعض : طيبوا نفساً ، فإن اللات والعزى شغلاه ببطنه ، ثم أووا إلى مضاجعهم وأسلموا عيونهم إلى الكرى ، فتسلل صهيب من بينهم ويمَّم وجهه شطر المدينة .

ولم يمضِ غير قليل على رحيل صهيب حتى فطن له رقباؤه ، فهبوا من نومهم مذعورين وامتطوا خيولهم السوابق وأطلقوا أعنتها خلفه حتى أدركوه ، فلما أحس بهم وقف على مكانٍ عالٍ وأخرج سهامه من كنانته ووتر قوسه وقال : يا معشر قريش لقد علمتم والله أني من أرمى الناس وأحكمهم إصابة ، ووالله لا تصلون إلىَّ حتى أقتل بكل سهم معي رجلاً منكم ، ثم أضربكم بسيفي مابقي في يدي شيء منه . فقال قائل منهم : واللهِ لا ندعك تفوز منا بنفسك وبمالك ، لقد أتيت مكة صعلوكاً فقيراً فاغتنيت وبلغت مابلغت ، فقال صهيب : أرأيتم إن تركت لكم مالي ، أتخلون سبيلي؟ قالوا : نعم ، فدلهم على موضع ماله في بيته في مكة ، فمضوا إليه وأخذوه منه ثم أطلقوا سراحه .

أخذ صهيب السير نحو المدينة فاراً بدينه إلى الله غير آسف على المال الذي تركه وكان كلما أصابه التعب استفزه الشوق إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فيعود إليه نشاطه ويواصل سيره ، فلما بلغ (قباء) رآه الرسول صلوات الله وسلامه عليه مقبلاً فهشَّ له وبشَّ وقال : (رَبحَ البيعُ يا أبا يحيى ، رَبحَ البيعُ) وكررها ثلاثاً .فعلت الفرحة وجه صهيب وقال : والله ماسبقني إليك أحدٌ يارسول الله ، وما أخبرك به إلا جبريل .
نعم لقد ربح البيع و نزل في صهيب قول الله عز وجل : ( وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ ) .
فنجد أن أهل التصوف مما عرفوه من حقيقة الهجرة أنهم هجروا المعاصى وزهدوا الدنيا وما فيها ودخلوا خلواتهم وجلسوا فى حضرة ربهم عز وجل ورحم الله الإمام الشافعى حيث قال :
إِنَّ لِلَّهِ عِباداً فُطَنا .. تَرَكوا الدُنيا وَخافوا الفِتَنا
نَظَروا فيها فَلَمّا عَلِموا .. أَنَّها لَيسَت لِحَيٍّ وَطَنا
جَعَلوها لُجَّةً وَاِتَّخَذوا .. صالِحَ الأَعمالِ فيها سُفُنا.

اللهم اجعل الدنيا فى أيدينا ولا تجعلها فى قلوبنا يارب العالمين

 

Facebook
Twitter
Telegram
WhatsApp

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *