“موروث الجهرية من وجهة نظر النقشبندية”… بقلم فضيلة الشيخ عبد الرؤوف اليماني الحسني الحسيني مرشد صوفية الصين.. (1)

عبدالرؤوف اليمانى... شيخ الصوفية الصين وحوله مريدوه

 

سيتناول موقع الصوفية اليوم الدولي نشر سلسلة مقالات لمرشد صوفية الصين وشيخ الطريقة الجهرية النقشبندية الشيخ عبدالرؤوف اليمانى الحسيني، حيث تنشر تباعاً تتحدث جميعها عن الموروث الديني للطريقة الجهرية النقشبندية.

 

1.تفسيرات حول مجمل النموذج النفسي المتكون في الجهرية

 

شهد يوم انتهاء الإمام البوصيري من كتابة المخمّس انتهاء معاناته من شلل كابده لسنوات عدة، واختفى أيضًا مرض الإمام “الباقر” الخطير الذي عانى منه لسنوات من عمره بعد إنتهائه من ترجمة “الرسالة المقدَّمة للأب” لحضرة الشيخ الخواجة عبيد الله أحرار.

وهذا ما ورثناه والتزمنا به في ديننا. نجثو أرضا في دائرة نذكر فيها اللّه كل ليلة بعد صلاة العشاء ونقرأ سورة الملك، بعدها نتلو خمس صفحات من المخمّس (المعروف أيضًا بإسم كتاب الشعر العربي، القصيدة الخماسية العربية، أو البُردة).

ولقراءة هذا الكتاب طريقة تم انتقالها عبر أجيال. وبعدما تحوّلت ثلاثة أبيات القصيدة إلى خمسة، شرع الكتاب في التوارث من قبل أهل السنة والجماعة. وعلى إثر ذلك، اتبعت جماعتنا (النقشبندية) طريقة هذه القراءة الموروثة من عهد نبينا محمد ﷺ.

حيث تتم قراءة سورة الملك وخمس صفحات من المخمّس كل ليلة،وحُدِّد كل يوم بحرف أبجدي خاص،ووُحِّد في عائلة محيي الدين (رضي الله عنه) طبيعة الصفحات الواجب قراءتها كل يوم. وهذا ما تمّ تناقله في الجهرية.

وبناءا على ذلك عملت ثمانية أجيال بأكملها من مرشدي الميراث في الصين وفقًا لقواعد المخمّس. ونبَع كلٌّ من سلام الروح، سكينتها، نبلها ونورها البارز من خلال قراءة المخمّس المؤثرة كل ليلة. كما أن كافة المُريدين ممن يحوزون القدرة على الالتزام مطالبون بقراءة سورة الملك والصفحات الخمس بانتظام.

للمخمّس قراءتان:

– القراءة اليمنية: وهي التي اعتُمدت في تكيّة المدينة المنوّرة (اندثرت هذه التكيّة ولم تعد موجودة). ووِفقا للأثر، تواجدت التكية ببستان لجوز الهند بالمدينة المنوّرة حيث كان النبي ﷺ يقوم بمناقشة الأمور الهامة مع الصحابة (أضحى المكان الآن منطقة سكنية خاصة وقُطّعت أشجار جوز الهند التي كانت فيه). ويقال أنه كان هناك تلّ ترابي صغير على بعد حوالي ثلاثمائة متر شمالًا من ضريح النبي ﷺ. حيث كان النبي ﷺ يلقي خطبته أو يقوم ببعض المسائل هناك.

ولمّا كان الصحابة يكنّون له حبّا شديدا، قاموا بصنع مرتفع ترابيّ له ليتخذه مجلسا. حينها طلب النبي ﷺ من الصحابة جميعا أن يصنعوا لأنفسهم تلالا أيضا فيجلسون عليها. فقام بذلك مرتفع كبير في الوسط وصفّان من المرتفعات الأصغر حجما أمامه. ويقال أن هذا المكان هو بالضبط مكان تكيّة المدينة. كما أنه بعد نقل طريقة القراءة هذه من المدينة المنوّرة إلى الصين أضحت تسمى “فوتشيانغ”، وتم تناقلها كطريقة تنشيد منذ ذلك الحين.

– القراءة الأخرى: هي قراءة تكيّة مكّة، ولم يبقى لهذه التكية أثر بعد توسيع المسجد الحرام. وتسمى القراءة الموروثة من هذه التكيّة بِـ “ترتيلات مكٰة”، وفي الصين يطلق عليها إسم “ترتيلات لينغ دجو”. عندما يُقرأ المخمّس بأي من الطريقتين، يترك انطباعا عميقا جدا لدى المستمع يدوم أبدا.

ونحن بفضل هذا الإرث التقليدي، نحتفل كل ليلة بمدح النبي ﷺ بخالص الصدق والإخلاص. بدءًا من الضوابط الرئيسية للطريقة وصولا إلى سلسلة الطاعات اليومية المتوالية، وبناءًا على ما تزخر به كل ليلة من إنشاد عذب، يصوَّب تركيز الحالة الذهنية بجلاء ووضوح نحو السعي لمبدأ اقتباس النور من شمعة. وتذكرنا لسيدنا محمد ﷺ لا يحثنا إلا على التحلي بمشاعر نبيلة غاية النبل وبحسن نية نابع بعفوية من القلب. وأملا في التنعم بشفاعته ﷺ، وإيمانا منّا بأنه ظهرٌ وسند لنا، لزم أن ينطوي قلب كل فرد منّا على محبة لامحدودة تجاهه وعلى أطيب التوقعات منه ﷺ. لذلك، يُلمس جليّا حب الله وحب نبيه ﷺ في الثناء الصادق والمستمر عليه ﷺ، وهذا ما يعكس المعنى العميق لحب الله ونبيه الكريم، الحب المترتب عن الميراث التقليدي.

وقد جاء السر ظاهرا وبيِّنا بين سطور صفحات كتاب المدائح، حيث ذُكر في فصل “فاي هو بي” أنه: بمدح نبينا الكريم ﷺ ينبثق نور عظيم يضيء الطريق الصحيح. وكل نور الإسلام يظهر من محبتنا لسيدنا محمد ﷺ. فقط أولئك الذين ينعمون بتلك العطيّة، الذين أُكرموا بالمعرفة، يدركون أنه “رغم غروب الشمس، يظل الشفق في الأعالي قائما”. وحال الولي من حال المرآة، يُعكس من خلاله ما تبقّى من نور على سائر الأمة. فتلاوة المخمّس كل ليلة ما هو في الواقع إلا انعكاس لنور حب النبي ﷺ. حين تغرب الشمس، يتألق القمر وتتلألأ النجوم. وحال المرشد سيّان، يستمر على إرشاد أتباعه رافعا شعلته وسط دروب حالكة السواد، مورِّثا نهج المصطفى ﷺ إلى أن تفنى العوالم. وهذا النوع من الفكر خلق انسجاما قويا داخل الجهرية.

يبدأ حبّ الله ونبيه ﷺ من الدورة الصوفية. حيث أن للدّرب الصوفي ثلاث دورات. الدورة الكبرى، ومدة الواحدة منها 36 سنة، ما يطابق تمامًا التقويم القمري الصيني. مما يعني أن شهر رمضان السنة التي وُلدتَ فيها سيصادف أن يكون شهر رمضان أيضا بعد 36 سنة بالتحديد. ولهذا السبب اعتبِرت الستة وثلاثون عاما هي المدة المضبوطة للدورة الكبرى.

وهناك الدورة المتوسطة، مدة الواحدة منها 33 يومًا، تُعتبر تقويما دوريا وسرّا صوفيا. أشياء عديدة تندرج تحت مفهوم الدورات.
لأنه ثمّة أمور عدة حدثت على مر التاريخ تتّصل بظاهرة الدورة. لقد حدثت منذ سنوات مضت وستتكرر مرة أخرى بعد سنوات مقبلة. يكمن الإختلاف فقط في الزمان، المكان والشخصيات، ويبرز التشابه بجلاء في مسار الحدث. ولهذه الدورة نقاط مطابقة لدورة المخمّس. وأخيرا، هناك ما يسمى بالدورة الصغيرة، ومدة الواحدة منها 28 يومًا.

بقراءة المخمّس وتفسيره كل ليلة، سيدرك أهل البصيرة والمعرفة الحقّة، المعنى العميق والرائع لِـ “واجب الوجود”، حيث أن كل الأشياء باطلة، غير حقيقية ومؤقتة. فقط اللّه وحده سبحانه هو الخالد، بلا بداية ولا نهاية. عن طريق التلاوة سيتولد المعنى العميق للمخمّس برقة وبتدرج، تلك التلاوة التي يلتزم بها العبد يوميا كل ليلة، من ميلاده إلى موته، مادحًا بكل إخلاص وبصادق الحب نبيَّه. فيمتزج حب الله وحب نبيه ﷺ، وينتج عنهما تناغم يَظهر تدريجيا في رحاب هذا الدين وينتقل بسلاسة إلى الجيل الموالي. والمعلوم أنه يتحتَّم على العبادات الموروثة أن تستمر وأن لا تنقطع أبدا، مذ لحظة الوجود إلى لحظة الفناء. هكذا ستَخلق هذه الموروثات فكرا ونية يشغلهما القرب من الله فقط، وسيغدو القلب حينها فعلا قريبا من الله، إلا أنه لن يدنو كليّة منه سبحانه إلا وقت الثناء.

أضحت هذه العبادة عادة معاشة في الحياة اليومية، وصارت نمطا من الميراث والممارسة مستمرا استمرارية الحياة. وقد شكلت في واقع الأمر تماسكا قويا وإيمانا راسخا لن يتغير أبدًا. وكانت هذه إحدى مبادئ حماية الدين الإسلامي. ومما لاشك فيه، إذا ما أُلغي الإحتفال بالمديح النبوي، فسيتم تدريجيا إخماد أهمية الدور العظيم لنبينا الكريم ﷺ، الشيء الذي سيُضعف بدوره الإعتقاد في حب الله و نبيه ﷺ. فمحبة الرسول ﷺ تُعتبر مدينة محصّنة وموقعا دفاعيا يحمي الإسلام من الاندثار، فإن هي ضاعت، ضاع الدين كلّه. لذلك، فالاحتفال بمدح الرسول ﷺ هو في الواقع نهج لتقوية محبة الله ونبيه ﷺ في القلوب ولتقوية الانطباع والعاطفة تجاهه ﷺ، حتى ننعم بإيمان راسخ يثبِّت أقدامنا على درب الإسلام. لأن سر التهذيب الروحي هو الحب النابع من أعماق الروح.

في الجهرية، حينما يقوم شخص ما بقراءة المخمّس ومدح النبي ﷺ بصدق وإخلاص، يطفو ويظهر بشكل عفوي الحب العميق المتغلغل في القلب، فيخلق بذلك قربا حقيقيا من الله ووجدانا ينضح بحبه تعالى وحب نبيه الحبيب ﷺ. وعُقب استشعار هذا الضرب من التأثر، ستتسع رقعة الإيمان لتتعدى محبة الرسول ﷺ فتطول محبة المخلوقات كلها، وستتوسع من كونها فقط عواطف وحبّا مجردًا لتتبلور إلى حب حقيقي ملموس.

رغم انتقال النبي ﷺ إلى الرفيق الأعلى، لازال هناك نوع من العاطفة ينبع طبيعيا عند مدحه ﷺ أثناء العبادات أو الإحتفالات، وهذا التعلق ليس مقصورا على آله وصحابته لوحدهم، بل يطول المسلمين كافة، والإنسانية جمعاء. حينذاك سيكون الشاعر بهذه العاطفة قد أحس فعلا بالحب الحقيقي الملموس. وبناءا على هذا الشكل الإحتفالي بالأمداح النبوية قد تمت نشأة تراث عاطفي يدعو لمحبة كل خلق الله بلا تمييز. سيتولّد هذا الحب الخاص تدريجياً عن طريق العبادة الراسخة، مما يتيح إدراكا عامًّا للإنسانية ولسنن الله تعالى، وبالتالي القدرة على التقاط الحبل، حبل خير الخلق أجمعين ﷺ.

كان حبه ﷺ حقيقيا وصادقا لكل صحابته، لأمته ولجميع الكائنات الحية، فأعان البشرية جمعاء على الرقي إلى مستوىً روحي مختلف، مما لعب دورًا هاما في السمو بالنفس إلى أعلى منازل التهذيب. ثم استمر الأمر كذلك، فاستُحيل الإقلال من شأن النبي ﷺ، ووجب على المرء أن يزهد في هذه الحياة الظاهرة حيث أنها مؤقتة وواهمة، وأن لا يضعها إلا موضعها الحقيقي.

ولا سيما في ميراث المخمّس، فالتلاوة بصوت مؤثر ومرتفع تترك انطباعا عميقا على مستوى العقل لا يندثر مدى الحياة.

لذا فالتلاوة بصوت عال في الجهرية تُلهم قلوب الناس، وتساعد على تبديد بعض الأفكار اللامُجدية والمضطربة. كما يمكن للروح العامة والصوت السائد خلق نوع من التحفيز العقلي وحث المستمعين على الإحساس بذات الشعور حتى عندما يكون القارئ شخصا واحدا لا أكثر.
لذلك، فالترديد بصوت عال يساعد في تبديد الأفكار غير المفيدة وتوليد مفهوم فقدان الذات، الشيء الذي يؤدي إلى إضعاف حدة الأفكار المسبقة. وسعيا لسعادة الدارين سيسمو الواحد منا لمقامات أعلى وأرقى. سيلتزم بهذه العادة وبالدورة طوال حياته، وستظل عاطفته ثابتة في هذا النطاق. سيكون هنالك رغبة وطموح يولدان في جو من التحرك المشاعري والإعجاب. وستتلاشى نقاط الضعف البشري تدريجياً ويُقضى عليها.

لذلك نجد أن أولئك الذين يداومون على تلاوة المخمّس، تتغذى قلوبهم على حب الله ورسوله ﷺ، مما يقلل من تغيرات مزاجهم ومن قوة تحكم الشهوة فيهم، ليحل محل ذلك مبلغ سَامٍ ونبيل ألا وهو ابتغاء مرضاة الله ورسوله ﷺ، مما ينير ويرفع من مستوى إدراكهم.

حين تنقشع فكرة الحب الحقيقي الملموس إلى الوجود، سيرتقي المرء من مستوىً إدراكي منخفض إلى مستوىً إدراكي سام ومقام روحاني عال جدا (وعلى هذا المنوال يصير أسلوب تفكير من وصَل درجة الحب الحقيقي الملموس). وهنا يكمن سبب تقيد الناس دائما بطريقة العيش هذه في الجهرية، متمسكين بالآليات العقلية للتلاوة المتكررة للمخمّس من المهد إلى اللحد والإحتفال بمدح النبي ﷺ بصوت عالٍ.

Facebook
Twitter
Telegram
WhatsApp

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *