“موروث الجهرية النقشبندية في بلاد الصين”… بقلم الشيخ عبد الرؤوف اليماني الحسيني مرشد صوفية الصين (٢)

عبدالرؤوف اليمانى... شيخ الصوفية الصين وحوله مريدوه

 

يتناول موقع الصوفية اليوم الدولي نشر سلسلة مقالات لمرشد صوفية الصين وشيخ الطريقة الجهرية النقشبندية الشيخ عبدالرؤوف اليمانى الحسيني، حيث تنشر تباعاً تتحدث جميعها عن الموروث الديني للطريقة الجهرية النقشبندية، وتنشر هذه المرة المقالة رقم “2”من سلسلة المقالات.

2. تفسير للعبادات والمواعظ الروحية الموروثة عن الجهرية (تشكيل النظام الأيديولوجي المحافظ)

 

كان هنالك في الجهرية عدة تلقينات عقائدية استحثت طموح المريدين نحو السعي خلف البركات الروحانية وسلوى الروح، (سعي للقرب من الله والعودة إليه)، وذلك لتحقيق الصلة الحقة بالله سبحانه فاطر كل شيء، وتحقيق التوافق بين مراد العباد ومراده عز وجل (التّوْق والدعاء لأجل النهاية الأسمى.. وهي العودة إلى الرب الرحيم).

حين يأتي على لسان حال المرء: “ربنا، أنت منتهى وجهتنا”. وتظهر في قلبه رغبة من هذا النوع، يُعلم حينها بأن تطلعاته قد أوقظت.

فيتقفى أثر الحلال دائما وينأى بعيدًا عن الحرام، يثق تمامًا بمرشده الروحي، يأتمنه على كل شيء ويقضي معه سنين حياته. وبعدها يقبّل عتبة التكيّة. حيث بموجب محبته للنبي ﷺ، ستزداد محبته لمرشده بشغف أكبر، وبعد تقبيله لعتبة التكيّة، سيمكث هنالك دومًا ولن يرحل أبدًا ما حَيِي. لأن كل الأشياء الزائفة في هذه الحياة لن تستطيع حجب الحقيقة عنه بعد الآن، ولن يضِلّ بعدها أبدًا.

 

بفضل طريقة تفكيره هذه، ستتجلّى عليه نعمة الله. فعلى الرغم من أنه لا يحوز الكثير من المعرفة، لكنه يتمتع بالتقوى والاعتزاز. وعلى الرغم من أن طاعاته ليست بالكثيرة، بيْد أنه على أتم الاستعداد للتضحية بكل شيء في سبيل حبه لله ولنبيه ﷺ.

حينها تخرج روحه السامية حيز الوجود. فتُفتح عين عقله، ويتضح له من خلالها أن كل ما في هذه الحياة لا يسعه إلا أن يكون ذا وجود مؤقت. وعلى نحو راسخ يزاول تديّنه تحت ظل هذه المعرفة. سيغدو باله مشغولا أكثر بشأن تشويش هذه الحياة الدنيا ومنعها نماءَ فكره.

يتحقق هذا عند بروز بعض الأفكار العشوائية والافتراضات غير الموضوعية والتنويرات الخاطئة، لكنه حينها سيستشير مرشده وأهل العلم السائرين على ضوء السنة النبوية.

أما من لم يلتزم بالقيام بطاعاته ووجدها مضجرة ومملة فقد هيأ ذهنه للتشويش وهيأ عقله للضعف والهوان. ستفسُد ألباب هؤلاء الناس مما سيحُول دون وصول ولمس نعمة الله لقلوبهم. وبالتالي ستُحرَم عقولهم بشكل خاص من التنعم بفضل الله.

بعد اتباع المرشد الروحي، ينفتح باب رحمة الله في القلوب المشوشة. ويستقر أيضًا مبدأ الإنصهار الذاتي والرجوع إلى الله. إنه شيء مؤقت، حيث أن لوجوده المستقل نقطة توقف، مما يجعله أقل جرأة على إطلاق أحكام موضوعية، وعلى تحمله لوحده مسؤولية استقامته الذاتية، وعلى السير في طريقه الخاص.

 

من الضروري في هذا الميراث أن تُركَّز الأفكار على السعي وراء الجيد من الأشياء والسعي إلى مفهوم الخلود، وعلى إظهار الحب لله سبحانه ولنبيه الكريم ﷺ وعلى مرافقة المعلم الروحي مدى الحياة. وطبقا لتفسير الميراث، فقد قامت الشهادة بوحدانية الله بناءًا على أدلة جلية تم من.خلالها إبراز وجود الله وصفاته وبعض إشاراته الخفية. كما أن هناك دلائل عديدة في ميراث الجهرية تؤكد على الوجود والحضور الحقيقين لله تعالى، والتي كُشفت من طرف جميع أجيال المرشدين الروحانيين السابقين.

 

وبفضل تجلي تلك الأدلة الواضحة المتوارثة جيلا بعد جيل، ظهرت منزلة الحضور مع الله. ثم خلال النهج التوارثي كُشفت كذلك بعض أسرار القرآن.

وبالتأكيد ساهمت هذه الدلائل في ارتقاء بعض ممارسي الطريقة إلى حالة من الهيمان والسُّكر وإلى مستوىً عال من الرصانة. إنه مقام رصانةٍ يُظهر معرفة حقيقية وإدراكا شاملا لحيثيات الحكم على الصواب والخطأ. وحالة السُّكر هذه هي ذلك الشيء القائم بالروح والذي يمكِّن من التبصر من خلال كل شيء في هذه الحياة واكتساب بصيرة واقعية وحكم حقيقي على الصحة والتزييف وعلى الصواب والخطأ.

هناك مقام في المعرفة الحقة في الجهرية يسمى الإدراك المباغث، حيث يتأتى للمرء فجأةً هذا النوع من الوعي، ويقول بلسان حاله: “يا ويلاه! كل ما قمت به كان عقيما ومؤقتًا”. زرَع في هذه الدنيا حجارة فقط ولم يزرع حبة قمح واحدة. لذا فمقتضيات ديننا تحثنا و تذكّرنا دائما بإهمال زراعة الحصى والإنهماك في زراعة القمح مكانه. فبذرة واحدة في التربة، ستُنتج آلاف الحبوب. وبهذا الأسلوب،بزغ إدراك الناس التقليدي إلى حيز الوجود.

ويعتبر مقام تكلم النبي ﷺ مع الله سبحانه وحدةَ الروح في الجهرية. إنها توفيق للحالة (في الحالة عينها، سيحوز نفس المعرفة ونفس الإدراك).

 

يتم الوصول إلى هذه المنزلة حينما يلتقي بحران اثنان في واحد، أي عند التقاء المرشد الروحي مع المريد، وعند التقاء النبي ﷺ مع الصحابي. في هذه الحالات بالضبط، سيشتركان في المستويين المعرفي والإدراكي ذاتهما، أي ما يعرف بالمظلة الروحية المتوارثة في النقشبندية.

في منظور التبريرات الإسلامية، نُقلت المظلة الروحية من صدر النقشبندية. الطاعة الناتجة عن حب الله والنبي ﷺ، والولاء الخالص للمرشد الروحي ولو طالت رفقته مدى الحياة، هي أحد التوارثات التقليدية الجهرية التي صاغت فكرا خاصا ونوعا معينا من الحب، وحفظت الموروث التقليدي بشكل متين. وفي خضم هذه الظروف تم تناقل الجوهر والإرث الأصلي للجهرية. وبطبيعة الحال، تمت نشأة بعض وجهات النظر الدينية وبعض السلوكيات والأساليب على مستوى النسق العقائدي.

 

لذلك، تميزت الجهرية دائمًا بطبعها المحافظ، هذه الطبيعة المحفاظة صانت تقاليد الإسلام الموروثة عن الرسول ﷺ رغم التأثيرات المحيطة. إنه لمن غير المجدي محاولة تغيير الأمور المعيارية، فسيُبرهن كل تغيير عن لافاعليته. أما كنتيجة للموروث، فقد تم تشكيل نوع من التيار المحافظ، الذي أبقى الجهرية أصيلة في الحفاظ على الإسلام المنقول عن الرسول ﷺ. وعليه قيل: “أن الدين ظل خالصا على الدوام لآلاف السنين، وانتقل من جيل إلى جيل دون أن يضمحل”. ومنه فلم يُضَف إليه أي مستحدَث رغم استمراره لما يزيد عن ألف سنة، ومؤكد أن شمعته لن تُطفأ أبدًا طالما تتناقله الأجيال بعناية.

 

في ميراث الجهرية، تُضبط حتى أصغر الأحكام وتُحفظ، ولا يجوز فيها الابتكار والتغيير. وهذا ما يجعل إرثنا الديني عن النبي ﷺ راسخا وقويا، به نحافظ على خالص إيماننا، وبه نعظّم عباداتنا ونقوم بآدابها، وبه ننحاز عن أي اعوجاج أو سيء البدع. وبالتالي، فهذا الإرث كبيرا كان أم صغيرا، قد تم حفظه وتعزيزه من جيل لآخر، فتبلورت بسلاسة طريقةٌ ذات قوة مُحكمة. لا يهم إلى أي مدىً قد تغير المحيط، فستستطيع الجهرية دائمًا الحفاظ على الموروث الأصلي لنبينا محمد ﷺ.

في مثل هذه الظروف، نشأ الرسوخ. روح القرآن وروح آل النبي ﷺ، كُتبا على شكل شعارات أو قوائم شفهية معروفة بشكل واسع بين صفوف التابعين وتوارثتها أجيال من المعلمين الروحانيين. وهذا سبب آخر لاستمرارية الجهرية في التناقل على الدوام وعدم اندثارها لحد الآن.

Facebook
Twitter
Telegram
WhatsApp

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *