“التصوف والحاجة إلى الإمتلاء الروحي”…. بقلم عمار على حسن _مصر

عمار علي حسن

الصوفية اليوم

لم يكن العالم، ونحن أوله، في مسيس الحاجة إلى التصوف، بشتى صوره ودروبه التي عرفتها الأديان جميعًا، أكثر من أيامنا تلك، حيث بلغ الظمأ الروحي أشده، ووصل التردي الأخلاقي مداه، وانطمر الوجدان تحت الاتكاء المفرط على البرهان المبني على العقل والنقل والتجربة، وزاد تشيؤ الإنسان إلى درجة غير مسبوقة، مع توحش الرأسمالية، وانتشار ثقافة السوق، واحتدام الصراع حول المنافع والمكاسب المادية والنفوذ والجاه والمناصب. 

وتحول التدين إلى مجرد طقوس وأفعال مادية بحتة تؤدي بطريقة آلية لا ورع فيها ولا خشوع ولا تبصر أو تدبر، وانجذب من كان عليهم أن يرعوا الأخلاق الحميدة والفضائل إلى السلطان، وراحوا يتخففون من الأحمال العقدية والدعوية والتربوية، وتحول أغلبهم من دعاة للدين إلى فتنة في الدين، علاوة على هذا أخفقت كل جولات الحوار سواء على خلفية الدين أو الثقافة أو الحضارة؛ لأن الجميع يكتفي بالنظر تحت أقدامه.

لقد انجرت الأديان إلى حلبة الصراعات السياسية منذ زمن بعيد، لكن هذا الانجرار تعمق في العقود الأخيرة، بعد أن كان كثيرون قد ظنوا أن الفصل بين الدين والسلطة بات أمرًا لا يحتاج إلى جدل لكل من يروم المدنية والتحديث، ويغار على عقيدته من أن تستعمل أداة في تصفية خصومات دنيوية وصراعات رخيصة على كراسي الحكم والتحكم.

فدراسات عدة انتهت إلى القول بأن الدين بات عنصرًا أساسيًا في الصراع الدولي، لا سيما بعد أن غربت شمس الاتحاد السوفيتي، وهناك نظم سياسية لا تزال متمكسة بـتحويل الدين إلى أيديولوجيا، وجعل رجاله لهم سلطان على ما عداهم، ومؤسسات دينية راحت تمارس ضغوطًا على القرار السياسي حتى في أنصع الديمقراطيات، وبعض الساسة يستخدم إشارات وتعبيرات دينية كمساحيق تجميل تخفي قبحه، وتخدع من ينصتون إليه ويرونه.

على الجانب الآخر هناك من ظن أن بوسعه أن يحبس الدين بين جدران المساجد والكنائس والمعابد، ويرتب معيشة الدنيا على قيم وأفكار وتصورات ومعانٍ مغايرة، أنتجتها الحكمة الإنسانية الخالصة، وفرضها التطور المادي الناجم عن التفاعل الخلاق بين البشر والطبيعة عبر التاريخ الطويل. ولم ينعم أصحاب هذا الاتجاه بما للدين من دور لا غنى عنه في بناء المجتمع.

فبين هذين النقيضين يسرى التصوف كالنسيم العليل الذي يزيح أمامه غبار التكالب على مغانم الدنيا، أو النور الذي ينبثق فيبدد الظلام الحالك الذي يجثم على النفوس والأبدان. لكنه أي تصوف: هل هو الدروشة التي تجعل أصحابها يهيمون على وجوههم فوق الدروب والشوارع؟ أم الطرق الصوفية التي يخلط أغلبها الدين بالفلكلور والبذل بالنفع؟ أم هو الانقطاع عن الناس في صوامع أو زوايا بذهن منصرف إلى التأمل في الملكوت الأعلى، ولسان يلهج بالتسابيح؟

في الحقيقة فإن ما نقصده هنا باستدعاء التصوف؛ لإنقاذ البشرية مما آلت إليه، ليس سوى استدعاء للإيمان العميق الرائق الذي يروي ظمأ الروح، وينير ظلمات النفس، ويطلق طاقة الخير لدى الإنسان، فيلمسها من حوله في أفعاله وأقواله. وهنا يبدو التصوف مرادفًا للإيمان الخالص، الذي يذهب إلى اللباب ولا يقف عند القشور، وينفذ إلى الجوهر متخففًا من المظاهر الجوفاء، ويميل إلى صحبة الأولياء تاركًا الأدعياء.

ومثل هذا التصوف يقوم على أركان محددة، نستقيها مما تركه لنا كبار المتصوفة والرهبان من أحوال ومقامات وأذواق ومواجيد. ويمكن ذكر هذه الأركان على النحو التالي:

1 ـ إن الله أقرب إلينا من حبل الوريد، وهو قوة متسامية وكونية في آن، يمكن لنا أن نشعر بها وندرك جلالها وجمالها، إن جاهدنا الشهوات، وانتصرنا على نقائصنا. والله يحبنا؛ لأننا خلقه، ويجب علينا أن نحبه لأنه واجدنا، ورحمته وغفران وسع كل شيء وكل أحد، ولا يجوز لنا أن نصادر على مشيئته بفرض دينه على خلقه أو إعطاء أنفسنا حق محاسبتهم في الدنيا، وتقرير مصائرهم في الآخرة.

2 ـ إن الكون أوسع بكثير مما نتصور، وعلى الإنسان أن يتواضع على قدر استطاعته، فهو لن يخرق الأرض ولن يبلغ الجبال طولا؛ ولذا عليه أن يؤمن بأنه في حاجة دائمة إلى رعاية الله وتعاون البشر.

3 ـ إن الإخوة الإنسانية أصل، ويجب ألا يتصارع البشر أو يتنازعون على زينة الحياة الدنيا، بل تربط بينهم المحبة والتراحم والتكافل والتسامح، وهي القيم النبيلة والعميقة التي تسعى الأديان إلى ترسيخها، وتنشغل برعايتها دوما.

4 ـ يعزف التصوف على وتر إنساني مشترك، بل متوحد، وهو المشاعر، التي تتوزع بين الحب والكره، والخير والشر، ويتشابه الناس ويتطابقون في هذا، ويتواشجون في رباط متين. فعاطفة الحب مثلا لا تختلف عند رجل أبيض عن الأسمر، وعند الأصفر عن الأحمر. ويشهد تراث الإنسانية على أن ما كان بين قيس وليلى لا يختلف أبدا عما بين روميو وجولييت.

وانجذاب الإنسان إلى حب الله، الذي هو جوهر التصوف، يعد طاقة أوسع وأعمق وأسمى من عاطفة بين رجل وامرأة، لكنها مثلها تتطابق من حال إنسان إلى إنسان، وتتوحد عند الأولياء والقديسين، وغيرهم من المنشغلين بالوصول إلى الحقيقة السرمدية، بعد أن تنبو عن الاختلافات الفقهية واللاهوتية المشبعة بالتفاصيل والإجراءات والطقوس، التي فرقت بين أديان سماوية أصلها واحد، ومنبعها وحيد.

5 ـ إن الإنسان في حاجة ماسة إلى الكثير من أركان التصوف، فالزهد ثروة، إذ يجعل الزاهد مترفعًا عن الدنايا ويقيم ظهره ويقويه في وجه كل من يسعى إلى استعباده بالمال أو المنصب والجاه، والمحبة واجبة حيال الله والبشر والأشياء، ليس حب التملك الغارق في أنانية مفرطة، بل الحب المفضي إلى الإيثار والمفعم بالغبطة والامتنان والسعادة. والحدس نعمة يمنحها الله إلى عباده على قدر محبته لهم، إذ بها يتجاوزون حدود المحسوس وينعمون بالإلهام الذي يدركون به على نحو أفضل ما يجري، ويمتلكون القدرة على تلمس التباشير وحيازة النبوءة.

وبوسع التصوف أيضًا أن يسهم بصيغة عميقة وخلاقة في إنهاء الفشل المتكرر للحوار الدائر بين الأديان، أو بمعنى أدق بين أتباع الأديان، والذي طالما اصطدم بتمترس كل طرف خلف معتقداته، ومحاولة إثبات أن الآخرين على باطل، أو الدخول إلى دائرة الحوار بهدف إقناع الآخر بتغيير معتقده أو إثارة الشكوك والظنون في رأسه وقلبه حول هذا المعتقد، أو انتهاز هذه الدوائر الحوارية فرصة للدفاع عن الدين، ورد “الشبهات والأباطيل” عنه، في ظل النظر إلى الآخرين على أنهم حاقدون متربصون.

فالتصوف يمتلك القدرة على الخروج من هذه الدائرة المفرغة، ودفع الأمور قدمًا؛ لأن جوهره وبنيته وأفكاره وتاريخه يحمل سماتٍ تساعد على هذا، ومنها:

أ ـــ يمتلك التصوف ميراثًا لغويًا عميقًا وجزلاً، ينبو غالبًا عن التفاصيل، ويرتفع فوق السياق الاجتماعي الذي أُنتج فيه، متجاوزًا الزمان والمكان، بما يجعله قابلاً للقراءة والتذوق والتفاعل معه من المختلفين في الثقافات والأديان.

كما يبدو التصوف أكثر رحابة أمام الدراسات الحديثة في فروع مختلفة من الإنسانيات، سواء بالنسبة للجوانب المجردة والنظرية، أو من خلال الممارسات والتطبيقات. فثراء التصوف على مستوى الشكل والمضمون، والمحسوس والحدسي، أو البرهان والعرفان، يفتح الباب على مصراعيه أمام الدارسين، في اللغة والأدب والفنون والفلسفة والاجتماع والإنثربولوجي وعلم النفس والسياسة والتاريخ وغيرها. وهذه مسألة ماثلة للأذهان وواضحة للعيان نضع أيدينا عليها إن طالعنا بـ”بلوجرافيا” التصوف والصوفية والمتصوفة، في لغات عدة.

ب ـــ يقوم التصوف على تجربة روحية خالصة، لا تقف عند الاختلافات التي تفرضها شرائع الأديان، بل تتجاوزها إلى البحث عن الحقيقة، دون أن يعني ذلك التنصل من فروض وأحكام تلك الشرائع، لكنها لا تنظر إليها بوصفها نهاية المطاف من الدين والتدين بل هي مجرد وسائل لاستلهام الينابيع البعيدة للإيمان.

ج ــ ينطلق التصوف من الإلهي إلي الإنساني، ولا يلزم نفسه بالإغراق في التفاصيل والإجراءات التي يحفل بها الفقه واللاهوت والتقاليد والتدوينات الظاهرية لسير الأنبياء والصحابة والتابعين في الإسلام، والحواريين والقديسين في المسيحية، والأحبار والكهنة في اليهودية. فمثل هذا هو ما فرق بين أتباع الأديان رغم وحدة أصلها ومنبعها، وفتح بابًا وسيعًا للطغيان البشري على الإلهي، والتقول على الوحي، ونسب إليه ما ليس منه ولا فيه ولا عنه. ومن ثم لا يملك غير التصوف قدرة على تقريب المختلفين في العقائد والمذاهب.

ينطوي التصوف على العديد من القيم العليا النبيلة التي يحتاج إليها الناس في كل زمان ومكان، مثل المحبة والتسامح والرضاء، وهي تصلح أن تكون أحجارًا قوية لبناء جسر متين بين أتباع الديانات والثقافات والحضارات.

Facebook
Twitter
Telegram
WhatsApp

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *