“موروث الطريقة الجهرية من وجهة نظر النقشبندية” …بقلم الشيخ عبد الرؤوف اليماني مرشد صوفية الصين_ (٣)

كتاب.. صوفية الصين

 

“موروث الطريقة الجهرية من وجهة نظر النقشبندية” …بقلم الشيخ عبد الرؤوف اليماني مرشد صوفية الصين_ (٣)

 

1. تفسير “منبع النعم”، “باب النعم” و “من لديه القدرة على التحمل” تحت ظل هذا الميراث.

يتميز هذا الميراث بتركيزه على الآداب الإسلامية، كبيرها وصغيرها، التي تُعد في حد ذاتها عوامل “تقرُّبٍ من الله” و “طلبٍ لرضوانه” و “الحصول على فضله سبحانه”. في حين أن من فقد هذه الآداب فقدْ فقدَ الطريق إلى الله. ونذكر هنا أن جميع الآداب الإسلامية، ما عظُم منها وما قلّ، تم توارثها عن نبينا الحبيب ﷺ، فقامت الجهرية بحفظها على أحسن وجه ودمجها في تقاليدها.

ربّنا الرحمن هو واهب السلام والأمان. ورسولنا الكريم ﷺ هو السر في تفضله سبحانه علينا بالرحمة والأمان لأنه ﷺ هو نبع التبصّر والمعرفة الحقّة. ونحن على يقين من نيل القرب من الله ورسوله الحبيب ما دمنا نسير على النهج الموروث عنه ﷺ. يتّبع أهل السنة والجماعة سنة النبي ﷺ وينشرون الإسلام بنشاط كبير، ويقلّدون خلفاء نبينا ﷺ تقليدا تاما فيما يتعلق بالسنة وآدابها. وبذلك تم تكوين تقليد خاص أثناء نقل هذا التوارث.

روح التقوى، الإجلال، الصدق، الإخلاص ومراعاة واتباع الآداب، هي خصال امتاز بها جميع الحكماء واختبروها بموجب ما تنطوي عليه قلوب مرشديهم -الهداة- فحُرّكت خواطرهم وأقوالهم وأفعالهم بدافع الولاء والتقوى بعد اتباعهم لتلك الآداب. ومكّنت هذه الخصال العقلَ من التمسّك بالولاء في كل شيء، كبيره وصغيره، منذ الولادة إلى الموت، وتشبّته بآداب النهج الموروث عن النبي ﷺ. لأنه لولا هذا العادة، لما ورث الناس الميراث وخصائصه عن نبيّهم ﷺ. الالتزام بهذه الآداب يضاهي نيل نِعم لا نظير لها. فأولئك الذين بلغوا هذا الهدف، من يفرحون ويغضبون لوجه الله سبحانه، سوف يكافَؤون بفضل عظيم. سيمنحهم الله نِعما غير متوقعة، ستظهر في محبتهم للنبي ﷺ، وللهادي (المرشد)، وللعلماء (علماء الحقيقة)، ولشيخ الطريقة. ويكونون قد مُنحوا بالفعل بعض مظاهر تفرّد النعمة صادرة عن “نور الهدى والإرشاد”.

في الإسلام، وفي التصوف خاصة، من الضروري الحصول على نور الهدى. إذا أراد المرء حيازة المنحة الفريدة، فلا يجوز لسروره وغضبه إلا أن يكونا لوجه الله، وعليه أن يحبّ الرسول ﷺ ويحبّ هاديه ومرشده وعلماء الحقيقة وشيخ الطريقة حتى يحوز قلبا صادقا، الذي به سينال نور الهدى ويحظى بتلك المنحة الفريدة.

ويأتي الحديث الشريف بما مفاده: “من أحبَّ العلماء والعارفين كان معي في جنة الفردوس”. فتم بناءا على هذا الحديث، توريث محبة
علماء الحقيقة وشيوخ الطريقة. كل الصادقين الذين لا يتظاهرون أو ينافقون، ويملكون قلوبا تنبض حبا حقيقيا، قد ورثوا بالفعل “النهر غير الملموس” (نهر نور الهدى ليس له شكل). تتدفق بركات هذا النهر باستمرار عطاءً من الله عبر نبيه ﷺ ومنه عبر الهادي لتستقر في قلوب التابعين. فتتصل هذه الأخيرة بقلب الهادي وتنساق له.

ومن ثَمَّ، كانوا قادرين بفضل نور الهدى على اتباع القواعد ما صغُر منها وما كبُر واتباع الآداب على مر السنين، واستمداد مختلف النِّعم منه. كلما قوِيَ الحب، كلما اشتد تأجج النار، وكلما اتسع امتداد النهر أيضا. حينما يتجاوز القلب المنقاد والمحِبّ لله كل مظاهر الدنيا، سيصير نهر حبه بحرا. سيصير هذا الحب موجا في أعماق البحر، وسيتدفق هذا الموج ليصل إلى قلب الهادي، وإلى الرسول ﷺ فلا يتحول بذلك عن سنته. يصهر المريد كل ما له علاقة بالحياة الدنيا في قالب يحكمه حب الرسول ﷺ ومحبة هاديه. حينها ستغدو مختلف آداب “نور الهدى” مجرد أمور اعتيادية وتقليدية لدى الهادي، ستظل دوما مقبولة، متوارثة، منعكسة بشكل مباشر على قلوب تابعيه ومحقونة في دمائهم كمعايير أساسية لاتّباع أقواله وأفعاله.

تفضّل الله سبحانه وتعالى على المريدين بدرجات فيما يخص جميع آداب “الحب” و “الولاء”، والتي أصبحت تشكّل كبرى تطلعاتهم. مختلف الآداب المتنوعة الموروثة، أي جميع الآداب التي أظهرها المريدون، نشأت وظهرت بشكل طبيعي بإلهام من الله، ودخلت حيز التقليد بخاصية محافظة متفرّدة. وكذا حتى أدق الآداب لم تكن من صنع الإنسان، بل نشأت أثناء الميراث.

فالمريد، بادئ ذي بدء، قد تكيف بشكل طبيعي مع صالح الأعمال المُرضية لله، وبقيامه بها يشعر بحلاوةٍ وراحة لا بعبء ومشقة.
لهذا السبب، فهو بطبيعته ينبذ كل أنواع الشر والقبح التي تحط من قدر الناس وقيمتهم. في حياته، الأمر الأكثر أهمية كان دائما ذلك الدافع أو النية التي أوصلته إلى المقام الآتي: “الكل لله” و “الكل هو الله”.

بدافع قويم ومستقيم كهذا، كان الدافع الأساسي وراء العبادات وكل الأمور الأخرى بعد فترة من الزمن هو السعي لالتماس رضوان الله لا غير، حيث أضحى لكل شيء وجهة واحدة فقط، ابتغاء وجه الله. كل النوايا المنطوية في ثنايا الأفكار والكلمات والأعمال ابتعدت كل البعد عن “لا إله”، وعن “الأنانية” و “الشهوة” و “الماديات”، ونزحت إلى الثبوت على معتقد “إلا الله” وعلى محبة الرسول ﷺ.

بنطقه لِـ “لا إله” يخلّص نيّته مما يشوبها، إن كان الأمر يتعلق بالحياة الدنيا، الأبناء، الثروة وما إلى ذلك. ويعيد توجيه نيّته وأفكاره وكلامه التوجيه الصحيح بقوله “إلا الله”. التزاما بهذا الغرض والمسعى، لن يَحدث لشيء أن يخلو مقصده من ابتغاء وجه الله.
إذا بهذه الطريقة، لعب هذا المعتقد دورًا فعالا في تقوية الدوافع والنوايا وراء كل الأفعال الممارَسة في هذا الميراث وتصويبها نحو الغاية الأسمى، التقرب من الله والطمع في رضوانه عز وجل.

تخلّص بالخصوص من أي شيء ليس له صلة بالله، استبعد أي سعي من أجل السمعة والشهرة، وألغ أي قصد آخر ما عدا وجه الله عند تأدية العبادات وصالح الأعمال. معتقدا بأن أي ذنب أو خطيئة أو تقصير من الممكن أن يكون مدعاة لغضب الله تعالى، تعوّد على البقاء دوما متيقظا، حذرا بشدة لكي لا تنحرف عن الصراط المستقيم بسبب دوافع من قبيل السعي المشوب غير الخالص لوجه الله، أو غرض آخر ما أو نية مختلطة بقصد غير رباني. عندئذٍ، ستنال الفضل العظيم لِـ “القرب من الله”.

يُعدّ هذا النوع من الإيديولوجية التقليدية والتفكير المتمسك بالعُرف سببا في تميز مريدي الجهرية بشدة تقواهم، جديتهم الكبيرة وحذرهم على مستوى كل الطاعات والأعمال الصالحة. بالنسبة للقول كما السلوك، يعتقد الجهريون أنه من الضروري جدا التمسك فيهما بِـ “التقوى والخشوع”، الذي هو شرط القرب من الله. ولكي تحظى بنقاوة القلب، ركّز جنتك دائما على التأمل في “لا إله إلا الله”.
العبادة القلبية هي تلك الخطوة الأولى. لذلك، فكل هذا يتوقف على نقاء الدافع والنية في ذكر الله وفي تذكره وفي ابتغاء سبيله عند القيام بأي شيء كان. في هذا الميراث، برزت سلوكيات التقوى والخشوع بشكل طبيعي نتيجة إتباع الدين الموروث عن رسولنا الكريم ﷺ كما كان بالضبط في الأصل، دون زيادة أو نقصان أو تغيير في قواعده وآدابه.

2. تفسير العلاقة بين “الوجهة” و “القبلة” و “المرشد”

ما هي وجهة القلب، خاصة بالنسبة للمريد؟ إنه يحترم علماء الحقيقة وشيخ الطريقة كوسطاء له. كما جاء في القرآن: “يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم” {59، النساء}. قلبه متوجه دوما نحو الله، نحو نبيه ﷺ، ونحو الهادي الذي يأمره ويأذَن له. يستحيل خلط ذات الله سبحانه وتعالى بأي شيء كيفما كان، دنيويا أو أخرويا. فلزم أن يكون الكل لله والكل هو الله. بالنسبة للمريد، فجميع اهتماماته ومحاولاته، بما في ذلك رغبته في أن يصبح وليّا، ورغبته في تحسين منزلته والفوز بمزيد من الثواب وما إلى ذلك، كل هذا لا يتوافق مع مقاصد أو دوافع التقرب من الله، ولا يتوافق مع اعتقاد “الكل لله وأن الله هو الكل”. بل بذلك يغدو الأمر مختلطا عليه بين مقاصد الدنيا ومقاصد الآخرة. لذلك فإن صفاء إيمانه مكفولة. الدوافع وراء ابتغاء مشاهدة خوارق العادات، المعجزات، الآثار وبعض الأدلة الواضحة تعتبر أيضًا محاولات لطلب شيء آخر دون الله. والإنسان الذي يطمح أن يرتقي في الدين وأن يصبح قائداً حتى يعرفه الجميع، يُعَدّ سعيه غير صحيح كذلك.

بعد إزالة كل ما دون الله من أشياء، سيبلغ حينها حالة الزهد. سيتم بلوغ حالة الزهد فقط إن تحقق الشرط الأساسي المتمثل في اعتبار الشخص نفسه عبدا لله حقا. لماذا نعبد الله؟ لأنه الله العظيم، هو الذي خلقنا، هو الذي منّ علينا بأن وُلدنا وبأن سنموت، هو الذي يرزقنا ومن عنده سبحانه السراء والضراء. بفهم هذا الشرط الأساسي بهذه الطريقة، سيتمكن للمرء أن يبلغ حالة الزهد.
عبادة الله هي ما يجب علينا القيام به، وليس لأجل أجر نبتغيه من الله. وفي هذا الصدد يوجد قول مأثور سبق ذكره من قبل:
“ربي! لك أنا طائعُ..
وكما ينبغي لعبد مثلي، حقا لك خاضعُ..
سأحمدك إن أدخلتني جنتكَ..
وإن رميت بي في النار.. سأظل على حمدكَ
سأخنع لك بدون شرط.. لأنني عبدكَ..
ولأن المشيئة مشيئتكَ.”
بمجرد أن يتحقق الشرط الجوهري “كن عبدًا لله”، سيصل المرء حينها لمقام الزهد.

كعبد لله، صوّب قِبلتك نحو ذات الله لا نحو صفاته تعالى. تشير القبلة إلى أن العبد يتجه إلى الله. يتجه المريدون إلى ذات الله، فيصير كل ما عداه جل جلاله مُزالا من قلوبهم، فيؤمنون بالله كما ينبغي، ويسلّمون أنفسهم تمامًا له، ويثقون كليا به سبحانه. الله لا يخضع لقانون المادة، ويستحيل على البشر أن يدركوا ويصفوا الحالة الكائن عليها وجوده جل في علاه. في حق الله، لا يسعنا إلا الحب، حب غير مقيّد بغرض ما نبتغيه، أو بحل مشكلة نصبو إليه. حب لا يتحتم فيه أن نعرف جوهر الله حتى ننهمك في عبادته. على هذا الصعيد، يضمن النهج المبتدئ من حال الامتثال إلى حال الطاعة اكتمالَه. في بادئ الأمر، يحدث الامتثال لله، بعدها طاعته، وأخيرا التسليم الكامل له سبحانه.
“ربي! لك أنا طائعُ..
وكما ينبغي لعبد مثلي، حقا لك خاضعُ..
سأحمدك إن أدخلتني جنتكَ..
وإن رميت بي في النار.. سأظل على حمدكَ
سأخنع لك بدون شرط.. لأنني عبدكَ..
ولأن المشيئة مشيئتكَ.”
هذه النوعية من الناس هم الظافرون حقا بالقرب من الله.

فقط بسبب نمط التفكير، لا يُصنّف النوع الآخر من الناس كمريدين. على الرغم من أنهم يسعون أيضًا إلى نيل مرضاة الله، إلا أنهم يبتغون كذلك القدرة على فهم بعض الأمور وتقبل بعض الاختبارات الإلاهية. نمط تفكيرهم مبني على مبدأ التحقق، بقول آخر، تفكير يحثهم على اختبار مرشدهم. ويُعتقد أن هؤلاء الناس هم مطرودون من الإسلام ومهجورون من الله. عيبهم أنهم يطلبون “المعجزات” بدلاً من طلب محبةٍ أقوى تجاه الله وقربٍ أكبر منه جل جلاله.
إذا أردت حيازة مقام محمود ودرجة رفيعة في الآخرة، لا تبتغ شيئا سوى الله، إحمده تعالى على كل ما أنعم به عليك، سواء أ كان محنة أو منحة، سواء أ رزقك الصحة أو ابتلاك بالمرض. إنه لمن الضروري أن نظل على حمد الله ما حيينا، لا نبتغ بذلك شيئاً منه، إنما نستسلم له، ونذلّ بين يديه سبحانه.

وفقط في مثل هذه الحالة، يتحقق للمرء أن يكون مريدا بالفعل. أما إن كان فقط ينشُد مقصدا ما، فيعتبر بذلك مرتكبا لفعل شنيع ومهدَّدا بشكل ما بخسرانه جنة القرب من الله، ويخرج بذلك من دائرة المريدين الحقيقيين. في هذا الميراث، يتمثل شرط المقام المحمود والدرجة الرفيعة في الإذعان التام لله، الخضوع الكامل له، وعدم الرمي إلى أي نفع خاص منه سبحانه.

3. عين العقل: تفسير لمفهوم “اتباع الولي، اتباع علماء الحقيقة، واتباع شيخ الطريقة”

يتعلق الأمر هنا بالوسيط، أي بطريقة التفكير الموروثة من طرف المرشد. حيث المقصد الأساسي هنا هو البحث عن وسيط. حين يهب الله ملَكة التفكير لشخص ما، فإن فكره يغدو كمدفن كنز، به يحظى باتصال روحي مع مرشده، يكتسب به المعرفة، ويرى من خلاله براهين واضحة. الحب والمقت (الحب، الكره، الرغبة) كل هذه المشاعر القائمة في الروح تنعكس على الوجه عن طريق التفكير. مما يعني أن مشاعر المرء (اللذة، الغضب، الحزن، الفرح) كذا سلوكياته (القبول، الرفض) تُرى واضحة بين حاجبيه.

عين العقل هي ينبوع النعمة من المرشد. عندما تنظر بين حاجبي المرشد، فإن تفكيره، حبه وكراهيته ينتقلون إلى عقلك، فتتمكن من فهم جوهر تفكيره المدفون بدون وعي في قلبك فعليا. كما يلزمك أن تكون قادرًا على التمييز بين ما إذا كان مرشدك يحب هذا الأمر أو يكرهه، وما إذا كان يؤيده أو يعارضه. بعد مدة طويلة من التراكم المستمر لهذا النوع الفكري والشعوري، تَشكَّل -على مستوى اللاوعي- معيار تفكيري لفكر لا متناه. لا يحتاج تكوين مثل هذا النمط إلى التخلي على بعض الأشياء، لأنها في النهاية ستُنسى وتختفي بشكل طبيعي على أي حال. بعد التقرب من الله، وبعد تعزيز الإيمان به سبحانه، ينشأ هذا النوع من التفكير وكذا معيار النقد الذاتي بشكل لا واع، وهذا في حد ذاته وسيلة تساعدنا في تحقيق القرب من الله تعالى.

قال الله عز وجل: “يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وابتغوا إليه الوسيلة وجاهدوا في سبيله لعلّكم تفلحون”.(المائدة، 35)

وفقًا لهذه الآية علِمنا أن ابتغاء الوسيلة فرض على كل متصوف، على كل من يتبع النهج الموروث عن الرسول ﷺ. وقال أحدهم أنه واجب، ما يجعله أقرب للفرض كذلك. يخاطب الله نبيه محمد ﷺ في القرآن، فيقول: “قل إن كنتم تحبّون الله فاتّبعوني يُحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم”. (آل عمران، 31)
في موروث الطريقة النقشبندية، يعتبر بحث المرء عن وسيط فرضا لازما. كما أنه من بين أهم الوسائل التي تساعد المسلم على اتباع سنة النبي ﷺ وخلفائه، هي الاقتداء بأفعالهم وأقوالهم، واتباع خطاهم على ضوء السنة النبوية، وإطاعتهم في أمور وأوامر مختلفة كالتي تصدر مثلا عن علماء الحقيقة وشيخ الطريقة. في مثل هذا الميراث، يتسنّى لك -رغم أنك لست النبي ﷺ- أن تتحدث بكلماته ﷺ، وتقوم بما كان هو يقوم به ﷺ، وتمهّد على نطاق واسع طريقَه ﷺ.

على هذا المقدار، يمكن للمرء أن يُبعث غدا يوم القيامة مع نبيه الحبيب ﷺ. ستتكشف طبيعته الصالحة، وسيتضح جوهر دافعه، أما روح التبجيل والتفاني لديه فسيغدوان واقعه ومركز سلوكياته. في الجهرية، بفضل ميراث الطريقة النقشبندية، تكوّنت حالة من نوع خاص، من خلالها يحافظ الناس الصالحون على ازدهار الإسلام، حيث يُبقون على توارث النهج النبوي ونشر الإسلام والتمسك بالطريق الأصلي الموروث عنه ﷺ. هم ليسوا أولئك الذين يتحدثون وهم بمنأى عن العمل. هم يتحدثون، لكنهم في الوقت ذاته يعملون، لذلك يُدعَون بذوي المنزلة العليا. بينما أولئك الذين يتحدثون ولا يعملون لا يتجاوزون المنزلة الدنيا. هم فقط يدّعون التابعية بقلوبهم، لكن لا تنطوي أفعالهم عن أي طاعة ظاهرة. يفتقدون إلى الأساسيات الخمس المتمثلة في الإتباع، الاستماع، الطاعة، الممارسة والتبليغ. لذلك فهم ليسوا بتابعين حقيقيين.

لأن تكون تابعا هي منزلة تستوجب الشروط التالية: الاتباع، الاستماع، الطاعة والممارسة وتبليغ أوامر المرشد. ويُعدّ تابعا كاملا ومثاليا من حقق هذه الشروط بشكل تام. ولن يُعتبر حينها مريدا خالصا، حقيقيا ومؤهلا، إذا أصيبت أحد هذه الشروط بنقص ما. والاتباع الحقيقي هو نهج سلوك فيه يتم تقليد المرشد والاستماع له والتركيز على العمل الجاد والتفاني. لذلك فكر مليا في مرشدك واجعل له في قلبك اعتبارا واحتراما. حاول الانسجام معه على مستوى الوعي والفعل معا، وانتقل للعيش بجواره إن أمكنك ذلك. أما خلاف ذلك، فيكون الأمر شكليا فقط لا يتعدى حدود التسمية المماثلة، ولا يبث بأي صلة كانت للاتباع الحق.

من جهة أخرى، لا يجب أن يغيب عن بالنا أن روح نبينا ﷺ لم تكن تفارق سيدنا أبي بكر الصدّيق رضي الله عنه وأرضاه، حيثما ذهب، حتى وإن تواجد في الخلاء (الحمام).
“لا يُنسى” هذا ما يصوّره حرفيا هذا المشهد. وبالتالي فإن الشعار في موروث ديننا: “كن كذلك، لتحوز المعيّة”. أي كن مثل أبي بكر رضي الله عنه، لتكون مع الرسول ﷺ. أبدًا لا تنسَ مهمّة النبي ﷺ وروحه، من مهدك إلى لحدك، واُسع دوما لإيجاد مختلف الوسائل التي بها تحقق الهدف المركزي المتمثل في القرب من الله ونبيه ﷺ. والمعلوم أن مجرد اِلتماسك لمسلك تبتغي به القرب من الله ونبيه ﷺ يعتبر في حد ذاته وسيلةً تُقرّبك من الله.
الوسيط هو وسيلة وعامل حاسم كذلك، لكنه ليس الغاية. والغرض من البحث عن وسيط هو الحصول على أفضل وجهة تُعينك على تحقيق القرب من الله ورسوله ﷺ. بعد فوزك بهذا القرب ستنال رضوان ربّك وستعود إليه وإلى موطنك الأصلي (الجَنّة).
لذلك، فإن الوسيط هو فقط أحد الأسباب المقربة إلى الله عند الجهرية، لا هو الرفيق المقترن بالله ولا هو الغرض الأساسي، إنما هو مجرد وُصْلة لا غير.

لم ينزل القرآن مباشرة على الأرض بل أُنزل على سيد الخلق ﷺ أوّلا، ومن ثَمّ أُخبر على لسانه ﷺ للأمّة. لقد أوحى الله تعالى بكتابه إلى نبيه ﷺ بواسطة سيدنا جبريل عليه السلام، ثم بواسطة هذا النبي ﷺ بُلّغ القرآن للناس. ولو تمّ حينها نكران دور الوسيط، لكان من الأرجح أن ينزل القرآن إلى الأرض ويأخذ كل شخص على حدة نسخته منه.
ويستحيل مع هذا المنطق أن يتسبب مشوار البحث عن الوسيط في خلق ولو ذرة من الشرك بالله، بوضعه (أي الوسيط) موضع عبادة، إنما يؤخذ على أنه سبب يقرّب إلى العليّ سبحانه. عندما أوحي بالقرآن إلى النبي ﷺ عن طريق سيدنا جبريل عليه السلام، مثَّل هذا الأخير دور الوسيط. وعندما بُلّغ القرآن الكريم إلى الأمة عن طريق النبي ﷺ، كان النبي ﷺ هو الوسيط، فتحتّم بذلك وجود الوسيط. ولولاه ﷺ لما عرف هذا الدين أي تطور أو ازدهار.

قال الله تعالى: “لعمرك إنهم لفي سكرتهم يعمهون” (الحجر، 72).
لذلك، يُعد رفض الوسيط في الطريقة الصوفية أحد أسباب فقدان القرب من الله، ويحيل إلى خسارة كبيرة لفقدان واسطة هذا القرب. والشخص الصالح الذي يسير دائمًا في طريقه الخاص، ويصعب عليه قبول فكرة البحث عن وسيط للتقرب من الله، هو شخص فشل في الترقي إلى النعمة، وهو شخص أنكر هوية النبي ﷺ وجبريل عليه السلام كوسطاء.

يتدفّق ينبوع نعمة الله الحقّة وبركاته عند نيل رضا الله. ويُفتح باب هذه النعمة بنشْد وسيط لأجل التقرب من الله ونبيه ﷺ. فقط من سيتحمّل، سيصبح تابعا حقيقيا، يتّبع سنة النبي ﷺ واستقامة صحابته، ويمتثل لأوامر وإذْن مرشده. في ميراث كهذا، سيفوز المرء بقرب الله ونبيه ﷺ، وسيحظى بالوسيط الذي يقرّبه من ربّه. في نفس الوقت سينال الثأتير الذي يحققه هذا القرب، وسيظفر بقبول الله، بحيث سيقبل منه كل شيء، فيصير بذلك تابعًا حقيقيًا.

4. تفسير جزء من العبادات ومعرفة المرشد في ميراث الطريقة النقشبندية

حسب الميراث، الشخص الملتزم العارف للآداب يحاول دوما أن يبقى على وضوء، ويتوب باستمرار من ذنوبه وخطاياه، البينة والخفية والمرتكبة عن جهل. يستغفر الله ثلاث مرات في كل وقت ينوي فيه الصلاة (الفرائض والسنن)، فيكون مجموع استغفاره ثلاثا وثلاثين في اليوم. كما أنه يستغفر الله تسع مرات أثناء أذكار الصباح والمساء ومرة عند خلوده للفراش، فيحصّل بذلك ثلاثا وأربعين استغفارا على الأقل يوميا. من جهة أخرى، فهو يداوم يوميا على قراءة سورة من القرآن الكريم، كهدية روحانية لمرشده ولجميع المسلمين الأحياء منهم والأموات.

بالإبقاء على مثل هذه السلوكيات، سيتصل قلب المريد بقلب هاديه، وسيتمسك بحال من الرسوخ على سنة نبيه ﷺ، ثابتا على حالة من الخشوع والتقوى والمحبة. لن ينسى أبدا المصاعب التي عانى منها النبي وكذا خلَفه ﷺ.
كثيرا ما يشعر المريد بالأسى حول معاناة أسلاف الإسلام: النبي ﷺ، الصحابة وأحفاد الرسول ﷺ الحسن والحسين رضي الله عنهم جميعا، والمسلمين من كل جيل، ذكورا وإناثا. يبكي كثيرا ويبتسم قليلا، ويمتلك نفسية وشعورا بالاتفاق والإجماع والرحمة. إنه يؤمن إيمانا راسخا بأن روح الهادي تصاحبه، وأن لا شيء يستطيع حجبَه عن نظر الله، كما أن لا شيء يستطيع حجبَه عن مراقبة نور الهدى الصافي دائما والحكيم (الخاص بالهادي) مهما تغيرت الظروف، بغض النظر عن الزمان والمكان والمسافات.

قلب المريد أسرع وأبلغ في التعبير من بصره ورؤيته وتعبيرات عينيه. من جهة أخرى، فإن الهادي دائما ما يكون على دراية بما يجول في قلب تابعه، يراقبه ويشاهده حيثما حلّ ومهما تبدّل الحال. بقبول المريد لهذا الميراث، يُقبل بدوره من طرف هاديه ويُعترف به. إذا مرت لحظة واحدة على ذهن المريد، خلا فيها هذا الأخير من استحضاره لمرشده، جعلت منه تابعا مزيّفا. وبالمثل، فحسب هذا التقليد، إذا ظن المرء في قرارة نفسه أنه قادر على خداع مرشده ما لم يخبره أو يُعْلمه بأمر ما، فهذا ينزع عنه رداء التابع الحقيقي.

ولأن النبي ﷺ هو الشمس، فلا يزال نورها المتبقي قائمًا بعد غروبها. يتوقع المريد رؤية النور بين حاجبي خليفة النبي محمد ﷺ، يفكر بعمق في روح النبي ﷺ، ويرى روحه ﷺ بأمّ عينيه. إنه مقتنع بأن مصدر نور الهدى الخاص بروح مرشده مستمَد من نور الهدى الخاص بروح النبي ﷺ، وأن روح المرشد تتصل دوما بمريديه، وتفنى عن ذاتها لتدرك مشاهدة الحق.

بهذا الإدراك، يبدأ في تثبيت أول خطاه على باب الطريقة، مرتقيا من حالة انصهار مع الشيخ إلى حالة انصهار مع النبي ﷺ. ولا يُعتبر مسلما من لا يستطيع رؤية روح النبي ﷺ على الدوام. في مثل هذا الميراث، غالبًا ما يكون عقل المريد في حالة من الانصهار والاندماج مع روح مرشده، ويخوض نفس مجال تفكيره، إلى أن يطابق وعيه المحتمَل إرادة الرسول ﷺ وإرادة المرشد.

“مَثَل النبي ﷺ كمَثَل الشمس، تغيب ويبقى نورها قائمًا خَلْفها. ومَثَل الولي كمَثَل المرآة، تنعكس بواسطته أشعة الشمس على المؤمنين”. إذا تخلّصتَ من هذه المرآة، فلن يتبقّى لك أي نور لتحصل عليه. يمكن لمس هذا تحت ظل ميراث الجهرية وكذا النقشبندية، سلسلة من أنماط التفكير شكّلت ملامح هذا التصور.
“يحافظ الصالحون على ازدهار الإسلام، يُبقون على التقاليد، ويوحّدون الأوامر”، بحيث يمكن للطريق الموروث عن النبي ﷺ أن يتّبع الميراث والالتزام، بالضبط وفقا للنسبة (نَسَب سلسلة الطريقة) كما كانت في الأصل، بلا زيادة ولا نقصان ولا تغيير.
رغم مرور ثمانية أجيال على تواجد الصوفية في الصين، لا زالت تحتفظ الطريقة بأصالتها كما عُرفت منذ البداية، بفضل عمْد الأجيال الوارثة إلى حماية الإسلام الأصلي.

في ظل هذه الظروف، فإن جميع العبادات والآداب المنقولة عبر الميراث، إضافة إلى معرفة المرشد والنبي ﷺ ومعرفة الله تعالى، زِد على ذلك أسلوب التفكير والاندماج الفكري المتنوع للمسلمين، كل هذا تم توحيده وتطويره وتوريثه للأجيال.

 

Facebook
Twitter
Telegram
WhatsApp

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *