المدرسة الصوفية في ليبيا.. “الشيخ محمد المحجوب نموذجاً”.. بقلم : أحمد الحراري

الشيخ محمد المحجوب

 

بسم الله الرحمن الرحيم وافضل الصلاة و ازكى التسليم على خاتم النبيين وإمام المرسلين سيدنا و نبينا محمد و على اله وصحبه اجمعين وبعد : ليبيا بلد عُرِف على مرّ الازمان باتّحاد أهله و سكانه على ملّة الإسلام و دين التوحيد بل نكاد نجزِم إن قلنا ان البلاد عُرفت بين اقرانها انّها متحدة المذهب فقهياً فيعدّ مذهب الإمام مالك بن انس هو الوجهة الشرعية الوحيدة للبلاد .

أما بالنسبة للمذهب العقائدي ، فكانت عقيدة اهل السنة و الجماعة اي الاشاعرة والماتريدية ، هي السائدة في البلاد منذ خمسينيّات القرن الماضي حتى تعرضت البلاد لبعض التشويشات كان سببها تدخل عقائد باطلة عقب انتهاء ثورة احد عشرة و الفين فكانت نتيجتها اقتتال داخلي بين اهل البلد سببه انقسامات طائفية نشأت بعد ذالك طوائف ومدارس لم تكن معروفة في ليبيا.

اذا ذكرت أهل السنة والجماعة من الاشاعرة والماتردية و أهل التصوف في ليبيا ، يتبادر الى ذهنك ثلاث مدارس رئيسية :

مدرسة السادة السنوسية ، و اغلب مريدي هذه الطريق في الشرق الليبي
وطريقة سيدي امحمد بن عيسى المكناسي و طريقة سيدي عبد السلام الاسمر الفيتوري الادريسي
لا يعني هذا خلوّ البلاد من طرق القوم الاخرى ، فالزوايا الرفاعية والقادرية و الدسوقية موجودة و لها مشايخ وأرباب زوايا و مريدين
الا ان الغالبية العظمى ينالها من ذكرناهم .

الطريقة العروسية ، طريقة سيدي الشيخ عبد الاسلام الاسمر الفيتوري رضي الله عنه و من لا يعرف الشيخ العارف بالله الشيخ عبد السلام الاسمر ، صاحب المقامات العالية والعلوم السامية ، و الكرامات العديدة والقصائد المفيدة ، حيث كان رضي الله عنه صاحب فضل عظيم في تأسيس الحركة العلمية الدعوية في المغرب العربي .

تربى على يد الشيخ احمد بن عروس و الشيخ عبد الواحد الدوكالي رحمهما الله تعالى ، و تربى على يديه الاف المريدين في شرق البلاد و غربها بل حتى خارجها ولا زالت زاويته ومنارته تعج بالذاكرين والعلماء الى هذه الساعه ، توفي رحمه الله عام تسعمائة وواحد وثمانين للهجرة .

كان من الذين اثّرت فيهم الطريقة العروسية الشاذلية واتخذوها منهجاً واسلوب تربية ، العارف بالله سيدي امحمد بن حسن المحجوب .
فمن هو الشيخ امحمد المحجوب ؟
عام الف وتسعمائة و ثمانية عشر للميلاد ، ولد بمدينة صرمان غربيّ ليبيا العارف بالله سيدي امحمد المحجوب ، من نسل طاهر فهو سليل السادة الادارسة الاشراف شريف النسب يرجع نسبه الى الامام السبط الحسن بن علي بن ابي طالب كرم الله وجهه ، حفيد رسول الله صلى الله عليه وعلى اله وسلم ، فهو رحمه الله من الدوحة النبوية الشريفة الطاهرة .

نشأ في مسجد _سيدي زكري _ بمدينة صرمان ، فحفظ القران ودرس العلوم الشرعية على الشيخين زكرياء بن ابي القاسم و علي الميلادي وتلقى على ايديهم علم اللغة والادب .
ثم انتقل الى مدينة طرابلس فدرس في مسجد احمد باشا وجامع ميزران ، واكمل مسيرته العلمية هناك .

عرف عليه مشايخه واساتذته اهتمامه بالعقيدة الاشعرية وميلانه نحوها .
فكان يجاهر بأشعريته و ينتمي الى هذه المدرسة انتماء فكري منهجي اكثر من كونه انتماء سير و اتّباع .
حتى وجد في نفسه الأهلية الى سلوك طريق القوم بعد ان تمكن من العلوم الشرعية تمكناً كاملاً و كان يضع بين ناظريه قاعدة اهل التصوف ( كل طريقة خالفت الشريعة فهي زندقة ) .

قرر سلوك طريق مشايخه اي طريق السادة العروسية الشاذلية .
فأجازه الشيخ محمد بن علي الغرياني في طريقة الشيخ عبد السلام الاسمر رضوان الله عليهم اجمعين .

اشتغل بالامامة و الخطابة واقامة مجالس العلم و الوعظ و الارشاد بمساجد مدينة صرمان ، حتى بنى مسجدا و سماه باسم جده : ( مسجد سيدي حسن المحجوب ) وقام بالاشراف على الإمامة و الخطابة .

كان رحمه الله يقضي نهاره بين مريديه واحبته من شرق البلاد وغربها بإحياء الموالد و المجالس الروحانية والعلمية ، في حين يعتكف في ليله بين قلمه و ورقاته يكتب ماشاء الله ان يكتبه من خواطر و حكم تربوية ، و من قصائد تعليمية ، و قصائد في مدح خير البرية ، و موسوعات في بيان فقه السادة المالكية .

له مؤلفات عديدة منها :
كتاب حكم المحجوب
كتاب سبيل نجاة المؤمنين
كتاب نزهة المريدين
هذا في التربية و السلوك
اما في مجال الصلوات فقد ألّف الشيخ :
كتاب صلاة الفيض الرباني
كتاب الادعية الصوفية
كتاب الفجر المنير
كتاب فتح الكريم الغفار في الصلاة على النبي المختار
كتاب الجوهر الفائق في الصلاة والسلام على خير الخلائق
و عنده في مجال الشعر :
القصائد العشرية الممزوجة بالصيغ المرضية
الروضة الغناء
قلوب العالمين
و عشرات القصائد و المدائح التي تردد في مجالس القوم الى يومنا هذا
اما في مجال الاوراد و الاذكار فعنده :
الحزب الاعظم
الدر الثمين
المجموعة الذكية
و له موسوعة شاملة سماها : مجموعة الخطب المنبرية .
و غيرها الكثير مما لا يتسع المجال لذكره .

و من نماذجه الشعرية ما وردت في كتاب : الحركة الشعرية في ليبيا في العصر الحديث
كان رحمه الله يقف كثيراً على أثار الحلاج ولكنّه لا ينصح تلاميذه بإقتفاء هذا الاثر .
و كان يوصي مريديه بقوله ( خذوا ابن العربي و اتركوا ابن عربي ) ويعني بالأول الفقيه المالكي ، و بالثاني الشيخ الأكبر رضوان الله عليهم اجمعين .

و حين سألوه عن السبب اجاب :لان ابن عربي يشير و لا يفسر و اما ابن العربي فيتمسك بما قيل ( اي النص ) فالأول لخاصة الخاصة والثاني لخاصة العامة .
من وصاياه ايضاً : الطريق الى الله تمشيها بروحك .
وهذه الوصية تتحمل معنيان :
الاول : بروحك أي بِرُوحِكَ لا بجسدك
و الثاني : اي لوحدك انت فقط ، و ذالك استنادٌ على معنى الكلمة في اللهجة الليبية الدارجه .

فيكون قصده في المعنى الثاني ان السير الى الله تعالى لا يكون فيه احد معك ، فتكون منفردا في حضرة الشهود وانت بين يدي المعبود
و هكذا استمر الشيخ رحمه الله في الوعظ والإرشاد و النصح وكتابة الحِكم و انشاء تلامذته انشاءً صحيحا سليما .

من أبرز من تربى على يديه
حفيده الشاعر و اللغوي و الاديب الدكتور عبد المنعم المحجوب .
و ابنه الشاعر محي الدين المحجوب
و غيرهم الكثير ممن صار يضرب بهم المثل في البلاد في ايامنا هذه في مجال التربية والتزكية و الافتاء والشعر واللغة .

توفي رحمه الله عام الف و تسعمائة و ثمانٍ و ثمانين حيث فاضت روحه الى بارئها و هو ساجدٌ بين يدي الله سبحانه وتعالى ودفِن في مسقط رأسه ، ولا يزال ضريحه قائما الى يومنا هذا ولا يزال مسجده يعجّ بالزائرين و زاويته تحتضن المريدين والذاكرين وطلبة العلم فنسأل المولى تبارك وتعالى ان يجزيه عنا خير الجزاء و ان يجعلنا على طريقه من السالكين .

وختاماً : اسرد حديث الصالحين واسمهم فبذكرهم تتنزل الرحمات و خير ما نختم به ، وصية من وصايا الشيخ ، اذ قال ذات يوم عندما سُئل عن العاقل فأجاب : ( العاقل من اذا تكلم ذَكر واذا سكت تفكّر واذا نظر اعتبر واذا دعته نفسه للمعاصي صبر ) وصلى الله على سيدنا محمد وعلى اله وصحبه وسلم .

 

Facebook
Twitter
Telegram
WhatsApp

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *