أشاهِد بعيون قلبي أتقياءَ كُثُر آتون يوم القيامة فارغي الأيْد فقراء، لكنْ بتفاؤلهم يعتقدون أنّ مثْواهم الجنّة يوم البعث سيأتي كثيرون بما عمِلوا من عملٍ فيكون هباءً، لكنّهم لا يَشْهَدون من الآخَرين هنا إلاّ ثناءً وإطراءً،تديُّنهم بالإسلام كانتقائهم من سِلَع السّوق ما يُرضي أذواقَهُم، يتَبَسَّم الشّيطان ظافرًا، و قلبي منكسِرٌ يَرْثَى لَهُم.
أشاهِد بعيون قلبي، فألمَحُ النبيّ ﷺ يذرِف دموعًا، وأَسمعُه يقول: “ربّي لا يوَدُّ أن يُلْقي في الجحيمِ أيًّا من أمّتي، لكنَّهم غافلون، غافلون جدًّا!” أَنظرُ حول نبيّنا ﷺ، هناك كتُب مكشوفة سِجِلّ الحسناتِ فراغٌ، قليلٌ ما عليه مُتناثِرُ، وفَاضَ بالسّيئات حتّى تعَدَّى الهامِشَ السِّجِلُّ الآخرُ على عَجَلٍ أستودِعُ الحبيب ﷺ، وأهرُبُ إلى بيتي يائسًا فأتعبّدُ.
أشاهِد بعيون قلبي فأرى أَيْدِي والِدِينَ كُثُر بدماء أبنائهم قد لُطِّخَتْ، ودماء على أرواحِهم تَتقاطر بفَيْضٍ، متجاوزة غَدْقَ الّتي على أيديهم يبتسمُ الشّيطان ويقول: “أبادوا ما لا يُحصى من ثوابهم وثوابِ ذُريّاتهم” في حين أنّ هناك من يقودون ذريّتهم للجنّة واحدًا تلو الآخر حتّى أنفاسهم ذِكرٌ لِلّه أيضا تُخبرني الملائكة: “أولئك هم من أَنجبوا أكثر وربّوا أكثر، وقادوا إلى درْب المجْدِ الحقيقيّ أجيالًا لحِقَتهم” فهنّأتهم.
أشاهِد بعيون قلبي فأرى اثنين أضرما نارًا في قصورٍ، وبيوتٍ من الكنوزِ، وجبالٍ من الذّهبِ الأحمرِ فحوَّلاها رمادا. فتحسَّرتُ ونطَق لساني: “يا أسفاه!”. بينما يَحرِقان يقولان: من لا يُؤتِ زكاتَه لا يدَّخِر اللّهُ أملاكَه. مبروك لمن ضحّى بنفسِهِ قربانًا لربِّهِ، وبَذَل كلّ المال في سبيلِهِ! أتمنّى أن تكون عبدًا كهذا!”
أشاهِد بعيون قلبي أنّي أتَبدّد تدريجيًّا في أعماقِ النّور، وتُزهِرُ في الأعالي بذورٌ كنتُ قد زرعتُها… لذا، جِئتُ إلى بابٍ سُطِّرَ عليه: “انْقَشَعَ الوهْمُ حين بَرَزَت الحقيقة”. لمَحتُ الشّكل السُّداسيّ حيث يكسُو الجمالُ الجمالَ والنّورَ يكسُوهُ النّورُ، هناك عُلِّقَتْ بالزّوايا فوانيسُ، ذهبيّةٌ وضِياؤها المُشِعّ على بحرِ الخُلْدِ ينعكِسُ. سمِعتُ صوتًا يُعلِن ببطء: “أُولئك الَّذين ليسوا أنبياءًا، مَن على درْب الحبيب ﷺ يَسِيرون، وعلى خُطاه.. للإسلامِ يَدْعُون، وبأنفُسِهم لخالقِهم يُضَحُّون، وبكلّ ما أُوتُوا من مالٍ في سبيل اللّهِ الحقّ يَجُودون، يتأتّى لهم ان يَلتحقوا بصفوف الأنبياء، ورغم أنّهم لم يَطَؤوا ساحة القِتال غير أنّهم أُنزِلوا مَنازلَ الشّهداء، هُم وحدهم مَن ضُوعِفَت أجورُهم ورُقِّيَت إلى أعلى مَراتبِ القُرْبِ مقاماتُهم.
أشاهِد بعيون قلبي أنّ الدّنيا في انكماشٍ وتقلُّص، والآخرة في كِبَرٍ واتّساع. الوقتُ قطارٌ يندفِع مسرعًا نحو “عَرَصَات”، سبيلٌ للجنّة أو سبيلٌ للنّار.. هذا ما هي عليه حقيقة الحياة، بينما السّبيل الصّحيح هو في الواقع شارة سُجِّلَ عليها: ” آخرُ جِسْرٍ للمرور”.
ختاماً
أجيالٌ من القادة الكبار قادَت التّابعِينَ إلى بحرٍ عميقٍ مِن النِّعمة الحَقّة: وهي إرشاد الأمّة إلى الوِجهة الصّحيحة.
وحدهم الأغبياء من يُغيِّرون آراءهم، لأنّهم يهابون مصائب الدّنيا أكثر من جحيم الآخرة. بِوِلادتهم على الشّاطئ و “ممارستهم الإسلامَ بسلاسةٍ وسلام” يظنّون أنّهم مُدرِكُو الضِّفّة الأخرى عاجلًا أو آجلَا، تمامًا كَمَن بالمرْكَبِ يَقطَعُ البحرَ مُرتحِلَا.
يعتقدون أنفسهم فائزين بالجنّة، حتّى لو لم يجتهدوا في سبيل اللّه، وأنّ بِمقدورِ الغَنَمِ المنفرِدة أن تَهزِم ابن آوى، وأنّ حصاد الآخرةِ الوافرِ آتٍ لا محالَة، ولو لم تُزرع أثْناء الرّبيع بُذُورُهُ.
نَسُوا أنّ هذه الحياة ليست إلّا ميدان اختبار. أحياء وقلوبُهم ميِّتة، وإلاَّ لَما خَدَعوا أنفُسَهم وخَدَعوا غيرَهم، لَما تَعَنَّتُوا، ولَما أذِنوا لكلام الشّيطان الخادعِ أن يَستوطِن آذانَهم.