“التصوف بين الفعل والعزلة”… بقلم  مازن الشريف_تونس

يمثل التصوف رافدا مهما للفكر الاسلامي، وقد ركز المستشرقون خاصة على التصوف الفلسفي وعلى مسائل تم دسها بشكل متقن مثل القول بالحلول ووحدة الوجود وهي مسائل من فلسفة البوذيين والهندوس، تقوّلها بعض الأدعياء ونسبت دسا وزورا لأكابر أهل التصوف وقُتل من قتل منهم بسببها.

ولكن التصوف كان رافدا أساسيا أيضا للفقه ودعامة للدين بل هو الركن الثالث (إسلام إيمان إحسان)، وهو التزكية التي يحتاجها كل مؤمن ليؤدب نفسه ويصل إلى ربه.

وكان التصوف بشكل عميق فاعلا في المجتمع وفي الدولة حين توفرت له شروط ذلك الفعل. وهي شروط تطلبت ثراء تجربة الامام الغزالي ومكانته في شتى العلوم، وأثر المدرسة النظامية وما فيها من تنظيم وإدارة ومناهج تعليم، ثم نقل الامام الغزالي تلك التجربة الثرية للشيخ عبد القادر الجيلاني عندما التقيا. وتأسيس الشيخ الجيلاني لمدرسته في تأثر جلي بالمدارس النظامية واسعة الانتشار، وفتح فروع كثيرة وبناء مدارس جديدة تخرج منها الآلاف من الرجال والمئات من النساء الحافظات الفقيهات. في تنسيق عميق مع الإمام الرفاعي ونخبة من أهل الله في وقتهما.

لقد قاد الإمامان الجيلاني والرفاعي حركة جماعية تمتد من العراق: مدرسته ببغداد والمدارس البطائحية وخاصة الامام الرفاعي. وجبال هكار الكردية والشيخ عدي بن مسافر الذي قدم من الشام وكان تلميذا لعقيل المنبجي وزميلا للشيخ رسلان. وكان لذلك أثر عميق على السلطان نور الدين زنكي خاصة ان معظم جنوده وقادته كانوا مت تلاميذ الشيخ عدي وكان هو بنفسه تلميذا للشيخ عبد القادر وكذلك تلميذه السلطان صلاح الدين.

إلى الهند مع ابن عمته سلطان هندوستان الخواجة معين الدين الجشتي وخليفته قطب الدين بختيار الكعكي البغدادي والسلسلة الجشتية الممتدة على كل شبه القارة الهندية.

 

الى الشام: الشيخ عقيل المنبجي والشيخ رسلان الدمشقي حامي البر والشام وبقا بن بطو وحياة بن عيسى الحراني….

الى المغرب والاندلس: ابو مدين شعيب الغوث ومنه الى ابن مشيش والامام الشاذلي وعبد العزيز المهدوي وأبي سعيد الباجي وابن عربي….

وكانت لهم اجتماعات تأسيسية في بغداد ومكة المكرمة. وكان بينهم تنسيق عال. مع وضع اهداف كبرى من بينها تحرير القدس واعداد الامة للانتصار بعد الانكسار.

وكانوا يرسلون أفضل تلاميذهم الى بعضهم حتى يتلقوا العلوم والمعارف ويترقوا في الأحوال ولم يكن بينهم تحاسد وتباغض واعتبار أن المريد ملك حصري ووقف على الشيخ يخرج من الطريقة لو تتلمذ على غيره أو حتى زار شيخا آخر أو زار ضريحه.

ويجعلون نخب تلامذتهم في مناصب عالية في الدولة وقيادة الجيش مع الحاكم العادل نور الدين زنكي خاصة، ولا يعزلونهم في زواياهم ويحطمونهم وظيفيا واجتماعيا.

وكانوا يلتقون الحكام نصحا وتأديبا لا خوفا ولا طمعا ولا ينعزلون في زواياهم.

وفتحوا في ذلك الزمان أكثر من أربعمائة مدرسة لتعليم القرآن الكريم والفقه واللغة العربية وشيئا من علوم الوقت.

بل وحتى العلوم العسكرية مثل مدرسة الشيخ رسلان بدمشق التي كان يشرف فيها بنفسه على تدريب الفنون العسكرية. وكذلك مدرسة ابي مدين في بجاية والتي خرج منها قادة جمعوا بين الولاية والقيادة العسكرية مثل ابي علي السني. وخرج ابو مدين في ثلاثين الف من تلاميذه الذاكرين المحاربين الى فتح القدس وشهد فتحها وقدّم يده فداء في الحرب وترك باب المغاربة فيها أثرا.

واستمر هذا ليكون له أثر كبير في معركة المنصورة ضد لويس التاسع والتي قادها الامام الشاذلي مع العز بن عبد السلام ومكين الدين الاسمر والمرسي ابي العباس وابن عطاء الله. وكان انتصارا ساحقا على الصليبيين. وتم اسر لويس التاسع. وذُكر أنه التقى الامام الشاذلي الذي قال عند انطلاق الحرب وهو في الصف الاول يشجع الجنود رغم كبر سنه وفقدانه للبصر: لويس التاسع لي وأنا صائده. وذكر كذلك انه أسلم. ولقبه قومه حين استعادوه بالامبراطور المجنون.

 

ثم في ابطال السنوسية وخاصة الشيخ احمد الشريف والشيخ عمر المختار وقتالهم المستعمرين الطليان والانجليز والفرنسيين في ليبيا والسودان ومصر وتونس، وكان لهم عمل دعوي كبير في أفريقيا كلها وحتى في الحجاز وبلغ عدد زواياهم الخمسمائة زاوية تقريبا.

وكذلك الأمير عبد القادر الجزائري باني الدولة الجزائرية الحديثة ومؤسس جيشها ومقاومتها. والشيخ بوعمامة وأبطال الطريقة الشيخية اكثر من قاتل الاستعمار الفرنسي في الجزائر فيما سُمي بثورة أولاد سيدي الشيخ (من 1864 الى 1904)[1].

وحفظت زوايا هؤلاء السادة للأمة دينها ولغتها وكرامتها وكانت أساس تحريرها وانتصارها حين تم توحيد الجهود والعمل المشترك[2].

ثم يأتيك الجلف اللُّكع والكَزّ النَّطِع[3]، فيقول أن الصوفية أهل زيغ وضلال وجهل وفساد عقيدة وشرك بالله.

في حين لا يخلو تاريخ الأمة في الفقه والحديث والتلاوة، وكذا الشعر والأدب والأخلاق والذوق، وفنون العلم وشتى المعارف من رجال التصوف.

ويخرج عليك الفِسل الأربغ[4]، فيقول أن التصوف صنيعة الاستعمار وأن الزوايا كانت لتنويم الشعوب ومنعها من التحرر.

وهو يعلم أنه يكذب على أسياده، وبين عينيه الشيخ عمر المختار والشيخ بوعمامة وأبطال الطرق الصوفية الأحرار.

في حين لا يمثل بعض الحمقى والعملاء والمندسين إلا أنفسهم، ولا يضرون أهل التصوف الحق شيئا.

ولكن لتوضيح ذلك والرد عليه ردا ممنهجا، وتجاوزه للفعل بد الانفعال وردات الأفعال، لا بد من توحيد الجهود وتغليب العلم وفهم الواقع ورسم الاستراتيجيات وإظهار قوة المواقف. والتواصل مع الناس بلغة الوقت. وعدم الانعزال عن شيء من شؤون الدنيا وشؤون الحكم بحجة الورع المزيف الذي يخفي العجز والعقم، وكأن الأدعياء أورع من الشيخ الجيلاني وكان له عمق في الدولة والحياة في وقته واعظا للناس منبها للحكام ناصحا ومؤدبا أيضا.

والعودة إلى جلوة إصلاح الناس وعدم الانكفاء في خلوة تحولت في معظمها إلى وهم وادعاء كرامات وتتبع منامات وسطو على جيوب السذج من المريدين والمريدات. والحجب عن الله لا الإيصال إلى الله.

لأن العزلة ستعرضنا جميعا للانقراض والهزيمة أمام فلول المكفّرين والمنفّرين من أدعياء اتباع السلف مع تكفير جميع السلف إلا مشايخهم. أو أدعياء اتباع الحضارة الغربية مع كره كل ما هو عربي وإسلامي.

وعلينا أن نكون يدا واحدة في مواجهة التحديات الرهيبة وأن نوحد جهودنا ونكثفها ونجعل لنا بوصلة بوجهة واحدة للخروج من بئر التخلف والتردي ولتحرير الأرض واستعادة أول القبلتين والدعوة إلى الخير والاصلاح ما استطعنا.

فكيف ننتصر ونحن مشتتون حتى في رقعة جغرافية صغيرة.

لقد كان الصوفية في القرون السابقة للشيخ الجيلاني والإمام الرفاعي، والامام الغزالي قبلهما (أي القرنين الخامس والسادس) وخاصة في القرنين الثالث والرابع عرضة للظلم بسبب الانعزال وعدم وجود قيادة موحدة ومشروع كبير وخطة عمل واستراتيجيات تحرك واستشراف وفقه واقع واولويات. مما أدى الى قتل الحلاج تلك القتلة الشنيعة ظلما وبهتانا. وادعاء صاحبه الشبلي للجنون. وحالة صمت طويلة تخللتها كلمات اشارية كمواقف النّفري ومخاطباته.

أليس ما حدث للكثير من مشايخ الصوفية ومن المريدين في عصرنا الحالي من قتل شنيع (مثل كثير من مشايخ ليبيا او مسجد الروضة بسيناء) شبيها بما حدث للحلاج الذي قال عنه الشيخ الجيلاني: عثر الحلاج ولم يجد من يأخذ بيده. ولو كنت في زمانه لأخذت بيده. ولم يكن يعني ما نُسب للحلاج من أقوال توحي بالحلول ووحدة الوجود كما نُسب للبسطامي قبله وابن عربي وعبد الغني النابلسي بعده وهم منه بَراء، بل المؤامرة الدنيئة ضده وشهادات الزور والقتل الأليم.

فلننتبه من غفلتنا، رغم كثرة العوائق. ولنعلم أن أشد ما يواجه التصوف من خطر: خطر المندسين فيه والمدعين له والذين اتخذوه نصبا على الناس واحتيالا ونهبا للأعمار والجهود والأموال.

سوسة 18-06-2020

[1] وأعتقد أن ثورتهم بدأت قبل ذلك بسنوات. وقد أعلن سليمان بن حمزة بعد أن وافقه شيوخ الزاوية. وانطلقت من مدينة البيض التي لها رمزية كبيرة حيث ضريح سيدي الشيخ عبد القادر بن محمد جد القبيلة ومؤسس الطريقة. وكانت أول عملية هي عملية هضبة عوينة بوبكر بالإغارة على مخيم للجيش الفرنسي. وشهدت الثورة أوجها مع الشيخ بوعمامة. ولم تنته الثورة سنة 1867 بل امتدت إلى آخر يوم من حياة الشيخ ولو بشكل أقل.

[2] كل هذه المعطيات بتفاصيلها قد بينتها في أطروحة الدكتوراه في التصوف والتي ناقشتها مع الاكاديمية العالمية لعلماء الصوفية ببريطانيا وذلك في فرع الاكاديمية باسطنبول. وحملت عنوان: التصوف الاستراتيجي بنية الأصل وهيكلية الفروع.

[3] الجِلْفُ : الكزّ الغليظ الجافي، الأَحمق. / اللُّكَعُ : اللئيمُ، والأحمقُ.

الكز: القبيح المضيّق على الناس. كَزَّ الوَجْهُ : قَبُحَ، كَزَّ الشَّيْءَ : ضَيَّقَهُ.

النُّطُعُ : المتشدِّقون في كلامهم.

[4] فَسُلَ الرَّجُلُ: جَبُنَ، رَذُلَ، كَانَ ضَعِيفاً مُحْتَقَراً. / أرْبَغَ الشيطان في قلبه: غلَبَ على قلْبه وأفْسَدَه.

Facebook
Twitter
Telegram
WhatsApp

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *