“أسس الفلسفة التربوية في الفكر الصوفي”، موضوع تناوله الدكتور منير القادري بودشيش، رئيس مؤسسة الملتقى ورئيس المركز الأورومتوسطي لدراسة الإسلام اليوم، خلال مشاركته السبت 12 سبتمبر 2020 في الليلة الرقمية العشرون من فعاليات ليالي الوصال المنظمة من طرف مشيخة الطريقة القادرية البودشيشية ومؤسسة الملتقى بشراكة مع مؤسسة الجمال.
أبرز فيها أن هذه الأسس منبثقة من الإسلام من خلال منظومة فكرية شمولية، تعبر عن رؤية صوفية إحسانية للخالق والمخلوق، وعن العلاقة القائمة بينهما، مبينا أن غايتها الرئيسية هي وصول المريد إلى معرفة الله عزو جل، بإشراف من شيخه المربي، وأضاف أن المعرفة الصوفية بالله تكون إلهاما قلبيا مباشرا، فهي نور يسري إلى قلوب عباده الصالحين الذين اختصهم الله سبحانه برحمته فَعَلَّمَهُمْ ما لم يكونوا يعلمون، مستشهدا بقوله تعالى في سورة العنكبوت(الآية69)”وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا”.
وأكد أن منهاج التربية الصوفية في الإسلام مُكَوَّنٌ من جانبين، أولهما نظري مصادره الرئيسة القرآن الكريم و علومه، و السنة النبوية، و علوم التصوف والتزكية، واللغة العربية، أما ثانيهما فعملي يشتمل على الأداءات التعبدية للفرائض والنوافل والمجاهدات، موردا في هذا الصدد ما جاء في كتاب شفاء السائل وتهذيب المسائل للعلامة ابن خلدون ” كَتَبَ رِجالٌ من هذه الطريقة في طريقتهم، فمنهم من كتب في الورع ومحاسبة النفس كالمحاسبي؛ ومنهم من كتب في آداب الطريقة وأذواق أهلها ومواجدهم، كما فعل القشيري والسهروردي وأمثالهم، وجمع الغزالي بين الأمرين في كتاب الإحياء، فدون فيه أحكام الورع والإقتداء، ثم بين آداب القوم وسننهم وشرح اصطلاحاتهم في عباراتهم، وصار علم التصوف في الملة في عصره علما مدونا، بعد أن كانت الطريقة، عبادة فقط وكانت أحكامها إنما تتلقى من صدور الرجال”.
وبين أن التصوف هو حصيلة تجربة ذاتية عميقة، تتجسد في العودة إلى الله وتصفية النفس لتصل إلى اليقين، وهو ما عبر عنه الإمام الغزالي في المنقذ من الضلال بقوله: “أقبلت بهمتي على طريق الصوفية وعلمت أن طريقتهم إنما تتم بعلم وعمل، وكان حاصل عملهم قطع عقبات النفس والتنزه عن أخلاقها المذمومة وصفاتها الخبيثة حتى يُتَوصلُ بها إلى تخلية القلب عن غير الله تعالى، وتحليته بذكر الله، وكان العلم أيسر علي من العمل فابتدأت بتحصيل علمهم من مطالعة كتبهم… وحصلت ما يمكن أن يُحصل من طريقهم بالتعلم والسماع، فظهر لي أن أخَص خواصهم، ما لا يمكن الوصول إليه بالتعلم، بل بالذوق والحال وتبدل الصفات”…
وانطلاقا من الكتابات والمجهودات الجبارة لعلماء الإسلام، أوضح القادري أن هناك عشر قواعد تؤسس للممارسة الصوفية المبنية على الكتاب والسنة النبوية، تتمثل أولى هذه القواعد في النية الصادقة الواقعة من غير التواء، مذكرا بحديث النبي صلى الله عليه وسلم”إنما الأعمال بالنيات، ولكل امرئ ما نوى”، فيما ترجع القاعدة الثانية الى الإخلاص في العمل لله، من غير شريك، ولا اشتراك، وعدم الرضا بغير الحق، والثبات عليه وتجنب الشبهات، والتخلق بالقناعة، مستشهدا بمجموعة من الاحاديث النبوية الشريفة كحديث “دع ما يريبك إلى ما لا يريبك”، مشيرا في الوقت ذاته الى أن القاعدة الثانية تشكل امتدادا للأولى وشارحة لها.
أما القاعدة الثالثة -حسب القادري- فهي إتباع أوامر الشرع، وذلك بالالتزام بكل ما جاءت به الشريعة، والميل لأوامر الله، وليس لأوامر الدنيا، مستشهدا بقوله تعالى في سورة النازعات (الآيتين 40-41) ” وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى، فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى”، بينما تتجسد القاعدة الرابعة في العمل بالإتباع لا بالابتداع، موضحا بخصوص هذه القاعدة أن المريد يجب عليه أن يتبع السنة ولا يتبع أصحاب الأهواء والفرق الضالة، ويلتزم طريق أهل السنة لقول الشيخ عبد الواحد إبن عاشر في منظومته :” يصحب شيخا عارفا بالمسالك يقيه في طريقه المهالك”، أما علو الهمة في اتباع السنة، وتجنب التسويف، وتأخير الأعمال، والتزام الإتقان وإتمام العمل في وقته، وتجنب التشيع، والاعتزال، والابتداع، فتشكل القاعدة الخامسة.
وأضاف أن القاعدة السادسة تتجسد في العجز والضعف أمام قدرة الله وإرادته، وإثبات الذلة والمسكنة أمامه، واحترام وتوقير جميع الخلق، وتجنب التكبر على المخلوقات، لأن في ذلك تكبر على الله، مذكرا بالحديث الشريف الذي رواه البزار والطبراني في معجمه عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “الخلق كلهم عيال الله وأحب خلقه إليه أنفعهم لعياله”، فيما القاعدة السابعة تتمثل في الخوف والرجاء حقا، موضحا أنه رغم تَضادهما، إلا أنهما يجتمعان في التصوف الذي هو مقام الإحسان، إذ أن الخوف ضروري لحدوث الطاعة، وتجنب المعاصي، أما الرجاء فهو ارتياح القلب لانتظار ما هو محبوب عنده، ويكون لنيل ثواب الله ورضاه، أما القاعدة الثامنة فهي دوام الذكر أي الالتزام بالورد، مستشهدا بقوله تعالى “الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىٰ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ”( سورة آل عمران الآية 191).
وأوضح أن القاعدة التاسعة تتحقق في المداومة على مراقبة الله، من خلال دوام العلاقة بالله، ومراقبة القلب وتعميره بذكر الله، ونفي غير الله منه، موردا الحديث الشريف الذي قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم “اتَّقِ اللَّهَ حَيْثُمَا كُنْتَ وأَتْبِعِ السَّيِّئَةَ الْحسنةَ تَمْحُهَا، وخَالقِ النَّاسَ بخُلُقٍ”، أما عاشرة هذه القواعد فهي معرفة ما يجب الاشتغال به، وهو أصل التقوى أي تعلم ما يجب القيام به ظاهرا أو باطنا، وذلك باتباع أوامر الله ونواهيه، وعدم الاستغناء عن العبادات والطاعات، وتصفية القلب من الكدورات موردا مقولة لابن عطاء الله السكندري “إذا حلت الهداية قلبا نشطت للعبادة الأعضاء”.
ليخلص الى أن التصوف أساس للتربية، ووسيلة تحقيقها المثلى، لأنه يجمع بين طرفي التربية، العلم والعمل، التفكير والتدبير، النظر والممارسة، وأكد أن الطريقة القادرية البودشيشية وعيا منها بان المؤمن القوي الصالح المصلح في نفسه وأهله و عشيرته هو عماد هذه الأمة وسبيلها نحو التقدم، تعمل كما هو واجب على جميع الطرق الصوفية على تربية مريدها تربية روحية صوفية سنية تزرع فيهم الأخلاق الفاضلة وأسس المواطنة الخالصة وتبعث فيهم روح التضحية والبذل والعطاء في سبيل الوطن متشبتين بتوابث هويتهم الوطنية والدينية، منتجين لقيم الخير والنفع وقيم الوسطية والاعتدال و السلم والسلام متحلين بروح المسؤولية والالتزام.