بقى قضية الاستشراق من القضايا الفكرية المثيرة للجدل حتى الساعة، وتزداد وتيرة هذا الجدل إذا كانت القضية التي يتناولها المستشرق تتقاطع مع الفكر العربي أو الإسلامي، لاسيما في ضوء نظرة مضطربة حتى الساعة للمستشرقين.
والمستشرق الإيطالي جوزيف سكاتولين، الذي قضى زهاء أربعين عاما من عمره يجمع بين طرفي القضية، فهو مستشرق غربي من ناحية، ومجال استشراقه التصوف الإسلامي من ناحية ثانية، وما بين القضيتين تبقى هناك تساؤلات كثيرة ما بين التصوف وشكله الإسلامي وعلاقة الأمر بتيارات العولمة وإشكالية الحوار بين أتباع الأديان، والعديد من القضايا الملتبسة، التي حاولنا أن نفك مفرداتها مع الرجل المفكر، علنا نصيب ناصية من نواصي النجاح في إقامة علاقة سديدة بين الشرق والغرب بعد أن اضطربت السبل منذ الحادي عشر من سبتمبر حتى الساعة بنوع خاص.. وإلى نص الحوار:
إذا أردنا بداية تحديد تعريف واضح للفظ صوفي في تقديرك وعبر مسيرتك الفكرية الطويلة في هذا الإطار.. كيف تعرف التصوف؟
الثابت علميا أن لفظ صوفي مشتق من اللفظ اليوناني myo بمعنى صمت لا سيما بصدد خفايا الأسرار الدينية mysteria الممارسة وقتذاك في بعض الجماعات الدينية اليونانية، أما فيما بعد فقد استخدم هذا اللفظ في اللغة الدينية للإشارة إلى الحقيقة الأكثر عمقا في صميم سر الإنسان، وهي أيضا الأكثر سرية وخفاء فيه، وغير معروضة ولا متاحة للفضول المتطفل والاهتمامات السطحية العامة الجماهير، وكذلك استخدام هذا اللفظ للإشارة إلى الحقيقة العالية، أي السر الإلهي mystery divine المطلق، الذي يفوق كل إدراك بشري، فلا أحد يستطيع الاطلاع عليه.
إذن اللفظ صوفي يشير إلى ما هو أكثر حقيقية وسرا في صميم قلب الإنسان، حيث يتقابل هذا مع المطلق ومعه يحتفي بلقاء فوقاني يحوله من صميم كيانه، إن الاهتمام بهذا البعد العميق للكائن البشري والرغبة الصارمة في تحقيقه حتى في الحياة اليومية، بل المراهنة عليه بالحياة نفسها كليا، كل هذا يعني الدخول في البعد الصوفي.
ما علاقتك بمجال بالتصوف الإسلامي، وكيف بدأت تتبلور في أرض الواقع الفكري والعملي؟
أنا لست غريبا أو بعيدا عن دائرة العشق الصوفي الإلهي، فكوني دارسا للأديان والثقافات الأخرى كان لا بد لي من المقارنة بينها عندما قصدت لبنان لدراسة اللغة العربية، هناك وجدت كنوزا من الإنتاج الفكري والثقافي الهائل للحضارة الإسلامية العربية وعليه فقد عملت على دراستها سيما وأنها عاشت أكثر من 14 قرنا على الأرض وستظل.
لماذا احتل ابن الفارض في حياتك مساحة عريضة من الكتابة والتكفير وتاليا التأليف؟
لقد درست ديوان ابن الفارض في أثناء إعدادي لأطروحة الدكتوراه، فحللت معاني الألفاظ في السياق النصي، ودرست التائية الكبرى التي هي عامود الديوان، فهي ثلث الديوان، وعبر فيها ابن الفارض عن أبعاد وعمق معاناته الصوفية.
أما التحقيق على مخطوطة ابن الفارض فلها قصة ترتبط بزيارتي لمدينة قونية في تركيا، وهناك وجدت في مكتبة “يوسف أغا” مخطوطة قديمة لديوان ابن الفارض لم يتم الإشارة إليها من قبل وليست ضمن الكتالوج التركي الخاص بالمخطوطات، وقد دونت هذه المخطوطة عام 640 هجرية، وابن الفارض توفي عام 632 هجرية، إذن فهي أقرب المخطوطات إليه عمرا، ودراستي هذه هي أول دراسة عن شعر ابن الفارض في العالم تعتمد على هذه المخطوطة.
هناك وجه سلبي في بعض الفهم المعاصر للظاهرة الصوفية.. هل هذا توصيف صحيح للمشهد؟
المصطلح mystics مع كل مشتقاته قد تم ابتذاله على نطاق واسع في الثقافة التسويقية المتداولة حاليا والمفروضة على الجماهير عبر شتى الوسائل الإعلامية فقد تم اختزال هذا المصطلح في اغلب الأحيان كعبارة عن كل ما هو شاذ وغريب، غير منطقي وتافه على مستوى العرض السوقي للاستهلاك في عالمنا المعولم، لقد وصلنا إلى حد أننا كثيرا ما نسمع الحديث بصفاقة مدهشة عن تصوف mysticism يخص بعض الأشياء السطحية كالعطور والسيارات وكرة القدم وهلم جرا من المنتجات التسويقية المعروضة عبر الوسائل الإعلامية العامة، كذلك بات مصطلح صوفي يستخدم إلى التلميح إلى أي نوع من الظواهر الغيبية الغريبة وغير الطبيعية أو غير المنطقية من أمثال الرؤى والأحلام والأحداث الخارقة للعادة.
هل من مصادر في عمق الإسلام تؤرخ لظاهرة التصوف أم أن التصوف ظاهرة منحولة مدسوسة على الدين الإسلامي دسا؟
الأغلبية العظمى من المستشرقين المتأخرين ابتداءً من المستشرق الفرنسي الكبير لويس ماسينيون، وخاصة بعد نشره كتابه المشهور “دراسة في مصادر القاموس التقني للتصوف الإسلامي”، أجمعوا على أن المصدر الأول والأصلي للتصوف الإسلامي يرجع الى منبع إسلامي وعلى رأسه القرآن الكريم، ومن أمثال هولاء نيكلسون، خاصة في مرحلته الأخيرة وجون أرثر آربري، وآنا ماري شيمل صاحبة الدراسة العميقة في التصوف الإسلامي وعنوانها “الأبعاد الصوفية في الإسلام”، واليكسندر كنيش صاحب إحدى أجود دراسة في تاريخ التصوف، هذه القراءات تجعلنا نتعجب كل العجب عندما نقرأ بعد في الكثير من الكتب العربية هجوما شرسا واسع النطاق وشديد اللهجة ضد المستشرقين عامة، وكأنهم في رأي هؤلاء المعارضين ليسوا إلا جملة من المتعصبين العمي لا غرض لهم إلا التآمر ضد العالم الإسلامي عامة، والدين الإسلامي بوجه خاص.
هل يمكن المقاربة بين الاندماج التام بين الذات والكل عند ابن الفارض وبين مبدأ وحدة الوجود عند ابن عربي؟
ابن الفارض يعبر في الأساس عن تجربة معاناة صوفية ذوقية شعرية لا يتفلسف، وهناك اختلاف لغوي واضح بينهما، فلفظ وجود بكل مشتقاته يعني عند ابن عربي الوجود الذي يوجد به الموجود، الوجود المطلق، الحق، أما ابن عربي فعنده في لغته الوجود مقترن بالكثرة، معنى الوجود يقترن بلغة الكثرة، وهو يتخطى الوجود إلى مرحلة الشهود، فيرى الوحدة بين الكل ويتخطى الوجود إلى الشهود والمشاهد.
بوصفك بالفعل مستشرق لماذا باتت النظرة العربية لكل مستشرق على أنه جاسوس أو تنويعات فكرية على هذا الفكر المغلوط؟ ومن يقف في تقديرك وراء هذه النظرة المشوهة؟
قضية الاستشراق من القضايا التي قضيت فيها جل عمري منذ أن وطأت قدماي أرض العالم العربي وإفريقيا، ودخلت من جرائها في صراعات فكرية عريضة مع كثير من الإخوة المسلمين من المفكرين، وفي أحد المؤتمرات ومن شدة الهجومات التي تعرضت لها كمستشرق قلت “إنني مستشرق ولست شيطان رجيم”.
والمؤكد أن هناك حالة من الالتباس وتزوير المفاهيم تنتشر في الأوساط الفكرية العربية تجاه الاستشراق بمعناه العلمي، وقد قال أحد المفكرين السعوديين مؤخرا، إنه يجب أن نفرق بين الاستشراق السياسي والعلمي.
في تقديرك.. ما الفارق بين النوعين من أنواع الاستشراق؟
الاستشراق العلمي معناه تطبيق العلوم الحديثة كما تطورت عبر مناهج عقلانية على دراسات الحضارات المختلفة ليس العربية فقط، بل الهندية والصينية والأوروبية.
أما الاستشراق السياسي فيكاد أن يقترب من مرحلة الأدلجة الفكرية، وأنا أعتقد أن الثقافة العربية عامة والإسلامية خاصة تفتقد دراسات جادة في هذا السياق، لأنه ليس لديها منهج علمي في الغالب، وما هو موجود في حقيقة الأمر لا يتجاوز الخطاب الدعائي الإعلاني وليس الخطاب التحليلي أو العلمي بمعنى الكلمة.
هناك كثير من الاتهامات الموجهة للمستشرقين على أساس أنهم انتقصوا من قيمة ووزن الحضارة العربية أو الإسلامية.. ما صحة ذلك؟
مؤكد أن هذا اتهام عار عن الصحة، فكثير من المستشرقين ساعدوا في إعادة النظر والاعتبار للثقافة الإسلامية وإعادة نشر مخطوطات لم يكن العالم يعرف عنها شيئا، أنا قدمت ديوان ابن الفارض، وهو صوفي إسلامي كبير وشاعر، محققا على أقدم مخطوطات وجدتها، وسجلت كل الاختلافات الموجودة في هذه المخطوطات المتعلقة به، وأكثر من مرة قلت لزملاء من المفكرين والفلاسفة المسلمين ليس ذنبي أن هناك اختلافات في أصول المخطوطات، أنا كدارس أسجل التاريخ لا أخلقه على هواي أو مزاجي.
لكن بعض المستشرقين بالفعل ربما كانوا مقدمة لمشروعات سياسية أو استعمارية بعينها؟
طبعا كان هناك في التاريخ بعض المستشرقين الذين كانوا في خدمة بعض التيارات السياسية الاستعمارية من جانب أوربا ، لكن هذا موضوع أخر ، وعلى كل حال لا يجب أن يكون الحكم على أي مستشرق من خلال عمله إذا كان متورطا في أعمال أو أجندات سياسية فحتى في مثل هذه الحالة يجب ان يكون حكمنا عليه علميا وبخاصة إذا كان له منهج علمي في البحث.. هنا لماذا أرفضه؟
أرسطوطاليس كان المستشار السياسي للإسكندر الأكبر، فهل لمثل هذا السبب أرفض كل مؤلفاته في الفلسفة والعلوم الطبيعية، وأقول إنها مزيفه، لأنه كان مستشارا للإسكندر، الذي غزا غالبية دول العالم؟ هذا أمر يستدعي تحرير المفاهيم من التشوهات التاريخية والعلمية التي تحيط بها.
في اعتقادك هل من قواسم مشتركة في التصوف بين الأديان التوحيدية وربما كذلك مع عدد من المذاهب الوضعية حول العالم؟
هناك قولا وفعلا قضايا مشتركة تتشابك فيه الخطوط وتتدخل الخطوط في التصوف بين كل هذه، لا سيما وأن الإنسان هو المتصوف ، والإنسان هو الكائن المتسائل يسائل ذاته عن ذاته وعن معنى حياته، لماذا وجد وما هو السبب من خلقه، والهدف من حياته وهذا قدر مشترك في كل الديانات وهذه تعطي للإنسان إجابات بها إفرازات كثيرة ومقدار واضح من التشابك أو التشارك إن شئت الدقة.
في تقديرك.. ما أهم تلك المعطيات أو المحاور المشتركة؟
أنا أركز دائما على 3 محاور مشتركة، فالصوفي أولا يبحث عن هوية الإنسان التي هي أساس الكيان البشري، والبحث في أيامنا هذه مطلوب وبقوة سيما في مواجهة تيارات العولمة المنفلتة، التي تشدد على المظاهر السطحية في الإنسان ولا تقترب من العمق أبدا.
المحور الثاني هو اهتمام المتصوف بالكون، وكل متصوف في كل الديانات يهتم بالكون ويحترمه، لأن الكون ليس فقط مادة للاستهلاك والاستعمال في المفهوم التسويقي العالمي، فالحيوانات والنباتات لها وجود متصل بالكيان البشري، ولو فقدنا هذا البعد فقدنا إنسانيتنا.
وثالثا وأخيرا الإنسان هو الباحث والمتسائل عن المنطلق، لذلك نسمي الإنسان الكائن المتسامي، لأنه يتسامى دائما نحو المطلق والله هو المطلق، هذه المحاور هي مشترك أعظم في كل الديانات ومن الواجب والمفيد لكل أتباع الديانات اعتبارها منطلقا للحوار فيما بينهم.
أليس من المثير أن نرى غالبية الذين يهتمون بدراسات التصوف العربي والإسلامي من المراكز البحثية الغربية وليس العربية أو الإسلامية؟
أنا أعتقد أن المشكلة أكبر وأوسع من ذلك، لاسيما أن قطاعات عريضة من المؤمنين في الشرق يتمسكون بالمظهر على حساب الجوهر، وهذا لا ينسحب على الإسلام فقط، بل على بقية أتباع الديانات الأخرى.
من يقف وراء هذا الفكر؟ وهل لهذه الأسباب نشرت كتابك التجليات الروحية في الإسلام؟
في العقود الخمسة الأخيرة ومع تصاعد الحركات الأصولية الإسلامية تعززت التيارات التي ترفض التصوف في الإسلام، وهي تيارات كما لا يخفي على كثيرين مرتبطة بمشاريع سياسية.
لكن الإسلام التقليدي التراثي يؤكد على أن التصوف كانت له مكانة رائدة ومهمة جدا في الإسلام، ولذلك أنا أهتم بهذا الموضوع ونشري لكتاب التجليات الروحية في الإسلام كان غرضه أن يقدم للمسلمين أنفسهم رؤية مستشرق عن جوهر الدين، وكيف أنه ليس المظاهر السطحية الخارجية فقط، بل التدين الحقيقي هو مرحلة تحول للإنسان من الداخل أولا لكي يجد ذاته، وثانيا لكي يتصل بالكون فالتصوف إذن هو روح الدين، وبدون الروح يبقى الجسد ميتا، وهذا يفسر التضاد الذي كثيرا ما نراه واضحا في أشخاص بعينهم مظهرهم الخارجي هو التدين والداخلي خلوا من أي عمق أو مبادئ أساسية إنسانية كالرحمة والعدالة والمحبة.
انطلاقا من المفهوم السابق هل يمكن للتصوف ان يكون أساسا قويا في مواصلة الحوار بين أتباع الأديان؟
نعم أنا أؤيد هذا الفكر، لاسيما أن التصوف في الإسلام كما في بقية الروحانيات والأديان الأخرى يبغي جوهر الدين ويقفز على الشكليات والشرائع والممارسات الدينية الظاهرية، لأن الدين، كل دين له جوهر وخبرة أساسية، لكن يجب ان نتفهمهما بعمق، خبرة التوحيد على سبيل المثال في الإسلام، كثيرا ما تبقى شكلية دون جوهر حقيقي، ويبقى الملايين أصحاب توحيد لفظي لا فعلي، لكن أن توحد ذاتك، وأن تصل للمعنى العميق للتوحيد حتى انك تفني ذاتك في ذات الله هذا هو طريق الصوفية الذي يغيب عن ناظري الكثيرين.
وعندنا في التاريخ الإسلامي مثال على ذلك الأمام الغزالي، فالرجل كان علامة، فقيها، بارزا في بغداد، وترك كل هذه العلوم الشكلية كما قال خلفه ووجد خبرة حقيقية في التصوف.
وأي تصوف يدعو بداية للتوبة فلا يصلح ان يكون الإنسان متدينا في الخارج، وهو من داخله كاذب أو سارق وهذا ما كان الغزالي يقوله “تخلقوا بأخلاق الله”، ومن أهم الصفات التي أركز عليها في الذات الإلهية الرحمة، ولهذا يجب أن يتصف الإنسان في عالمنا هذا بالرحمة، فبدون رحمة تصبح كل الممارسات الدينية الأخرى نوعا من أنواع النفاق وليس من الدين.
كان من المفترض أن العولمة تقرب بين الناس لا أن تفرقهم الهويات القاتلة، لماذا ظهرت الهويات الدينية والأصولية في زمن العولمة بأوسع صورة؟
ظاهرة الهويات الدينية ليست ظاهرة حديثة، بل هي ظاهرة معروفة عبر التاريخ القديم الأوربي والعربي والإسلامي، ولعب الدين دورا كبيرا في السياسة، والحكام كثيرا ما كانوا يطلبون التأييد الديني لأنظمتهم، جرى ذلك في عهود الأمويين والعباسيين والذين خلفوهم، أنا أرى أن الأديان الآن عليها أن تواجه إشكالية ثقافة التسويق العالمية، العولمة تحاول تسويق أي شيء وكل شيء وأي قيمة وكل قيمة، والسيطرة على مقدرات البشرية عبر الأسواق، وما لا يباع ولا يشترى في تلك الأسواق ليس له قيمة.
تحدثت عبر أكثر من ورقة بحثية مهمة عن إشكالية “التسويق العالمي”، في تقديرك ما العواقب المترتبة على تلك النظرة؟
من أفظع العواقب لهذا التسويق العالمي والأكثر لفتا للانتباه، عواقب شجبتها منذ زمن أطراف عدة من المفكرين المعاصرين، هي التكتيل الثقافي ( cultural massification) على مستوى العالم، فلقد أصبحت الثقافة الإنسانية – على مختلف جوانبها – في خدمة ذلك التسويق العالمي، فهي مدفوعة الآن الى دعمه وتبريره وهي موضوعة تحت رحمة آلة مرعبة، ألا وهي الدعاية التجارية التي أصبحت الآن مغطية إلى حد كبير أفقنا الثقافي الحاضر.
والواقع أن أي مظهر ثقافي لا يجد مكانا ما في ساحة الإعلام التسويقي فهو ناكص خاسر عديم القيمة، هكذا نجد أن أية قيمة ثقافية يجب بالضرورة أن تحول إلى شكل “منتج تسويقي” لكي يمكنها التواجد على المستوى العالمي.
لكن الإشكالية الأكبر هي أن هذا القاموس التسويقي قد دخل بملئه في كل المجالات حتى المجالات الدينية.. أليس كذلك؟
بالفعل وبلباقة شديدة يجرى الآن الحديث عن “سوق دينية” يحكمها قانون العرض والطلب كأي منتج تسويقي آخر، وليس هذا فقط فحتى الأعمال الثقافية القديمة تجرى عليها الآن عملية استعادتها وإعادة تدويرها وتصنيعها كمنتجات تسويقية تصلح لإعادة طرحها في سوق قريتنا العالمية الجديدة، ولكن مفرغة كليا من المحتوى الوجودي – الرمزي، الذي كان لها في سياقها الثقافي الأصلي، فالسياحة الجماعية، على سبيل المثال، من أوضح النماذج للطريقة التي يتم بها اختزال الثقافات القديمة، التي كانت محملة بمعان رمزية عميقة، إلى مجرد عناصر لـ”حزمة تجارية” يجب استهلاكها بالطريق الأكثر اقتصادية على قدر الإمكان.
هكذا تجرى الآن على مستوى العالم عملية اختزال الأساطير القديمة إلى رموز ماركات تجارية من أجل تسويق منتجات معينة ذات استهلاك جماهيري، وهذه هي الثقافة الجديدة التي يتم فرضها على مدار المسكونة عبر كل الوسائل الإعلامية الممكنة.
لماذا تركز كثيرا جدا في كتاباتك على إشكالية ” التشظي الأخلاقي – الديني (moral- religious fragmentation) وما موقع وموضع تلك الإشكالية في سياق العولمة الكونية الحاكمة؟
بداية نعني بهذا التعبير أنه في هذه العملية التسويقية العالمية تتم تشظية أو قل تذرية كل القيم الإنسانية المتمثلة في المؤسسات التقليدية، من مثل الأسرة والكنيسة والمسجد وأشكال أخرى من الحياة المحلية المشتركة.
إن تلك القيم الإنسانية دامت على مر القرون الدعم الثابت لمسيرة الإنسانية عبر تقلبات التاريخ البشري، وها نحن الآن بكائن بشري حديث يبدو متذريا متشظيا في ذاته الى أقصى حد وملقى في بحر هذه العملية التسويقية العالمية المهيمنة وهو مفرغ من أي مبدأ داخلي يساعده لمقاومة الثقافة التسويقية الحديثة الجارفة.
إن هذا الإنسان الحديث الفرد المتفرد قد انقطع عن كل مرجعية أخلاقية دينية لا تقوم على ذاتيته الخاصة أو مصالحه الخصوصية أو رضاه الفردي المتفرد، فيرفض هذا الإنسان الحداثي كل قاعدة بل كل شرط أو حد يأتيه من فوق أو من تحت، من الداخل أو من الخارج فلا يريد هو إلا أن يعيش خبرته الشخصية الفردية المتميزة، فيصبح هو القانون الوحيد المطلق لنفسه دون أي تدخل خارجي أجنبي.