يقول الله تعالى في الحديث القدسي : ( من أهان لي ولياً فقد بارزني بالمحاربة ، وإني لأسرع شيء إلى نصرة أوليائي ، إني لأغضب لهم كما يغضب الليث الحرب ، وما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن قبض روح عبدي المؤمن ، وهو يكره الموت وأكره مساءته ، ولابد له منه ، وما تعبّدني عبدي المؤمن بمثل الزهد في الدنيا ، ولا تقرّب إليّ عبدي المؤمن بمثل أداء ما افترضت عليه ، ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه ، فإذا أحببته كنت له سمعاً وبصراً ويداً ومؤيداً ، إن سألني أعطيته ، وإن دعاني استجبت له وإن من عبادي المؤمنين لمن سألني من العبادة فاكفه عنه ، ولو أعطيته إياه لدخله العجب وأفسده ذلك.
وإن من عبادي المؤمنين لمن لا يصلحه إلا الغنى ولو أفقرته لأفسده ذلك ، وإن من عبادي المؤمنين لمن لا يصلحه إلا الفقر ، ولو أغنيته لأفسده ذلك ، وإن من عبادي المؤمنين لمن لا يصلحه إلا الصحة ، ولو أسقمته لأفسده ذلك ، وإن من عبادي المؤمنين لمن لا يصلحه إلا السقم ، ولو أصححته لأفسده ذلك ، وإني أدبر لعبادي بعلمي بقلوبهم ، إني عليم خبير ) كنز العمال ج1 ص231 ، في هذا الحديث القدسي الشريف يظهر المولى سبحانه قدر الولي ومكانته عنده ، ويبين لنا أنه حين يأتمر بما أمره به وينتهي عما نهاه فإنه سيتولاه بولايته ويحيطه بعنايته ويكلأه برعايته ، بمعنى أن الولي المؤمن لما أطاع الله فيما يريد أعطاه الله ما يريد وأصلح له شأنه ، لا بل يصلح به ، ويصلح له ، كما ورد في إحياء علوم الدين للغزالي : ( يروى أن الله تعالى أوحى إلى داود عليه السلام : يا داود إنك تريد وأريد وإنما يكون ما أريد ، فإن سلمت لما أريد كفيتك ما تريد ، وإن لم تسلم لما أريد أتعبتك فيما تريد ثم لا يكون إلا ما أريد ) وبموالاة المؤمن لربه يصير يغضب له وينصره ، بل يصير سلَماً لمن يسالمه ، وحرْباً لمن يحاربه ، ومن يؤاذنه الله بالحرب فإنه يأخذه أخذ الكلاب .
ومن شدة التصاق المؤمن برحمة الله تعالى حتى يصل فيها إلى حالة يتردد الله سبحانه في قبض روحه ؛ لأنه يكره الموت ، والتردد هنا حسب ما فسره الشيخ عبد القادر الجزائري ( رحمه الله ) في كتابه المواقف في التصوف والوعظ والإرشاد : (( هو أن المشيئة والإرادة عبارة عن تصرف الحق تعالى في ذاته بذاته وبتصرفه في ذاته ثبت قوله : يَمْحو اللَهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ ، فتتصرف المشيئة في الإرادة بالظهور والبطون ، فيشاء أن يريد ومشيئته لا أن يريد تصرف في ذاته ، لأن إرادته تعالى ليست غير متعلقة بالممكن ، فيشاء أن يريد ويحكم العلم . والمشيئة بما هو المعلوم عليه في ثبوته ، فالذات من حيث أنها مشيئة تتصرف في تعلق الذات من حيث أنها إرادة وتردد ، كما ورد في الحديث الصحيح : ( ما ترددت في شيء أنا فاعله ترددي في قبض نسمة عبدي المؤمن يكره الموت وأكره مساءته ولا بد له من لقائي ) .
فوصف سبحانه وتعالى نفسه بالمفاضلة في التردد والذي جعله يقبضه على كره هو حقيقة المعلوم . فالتردد من الإرادة ما هو من المشيئة وحكمته ظهور العناية بالأمر المتردد فيه ، والمشيئة لا تردد لها ، فلا يشاء إلا ما شاء ، وما شاء إلا ما علم ، فالمشيئة لها الحكم في التردد الإلهي كما لها الحكم الأمر الإلهي المتوجه على المأمور أما بالوقوع أو عدم الوقوع )) .
إذن التردد الالهي هنا هو لا كترددنا نحن البشر – كلا وحاشا – بل هو صفة فعلية خبرية ثابتة لله تعالى على ما يليق به سبحانه ؛ لأنه ( لَيْسَ كمثله شيء وهو السميع البصير ) . أما عن كره المؤمن للموت ، فلأن الحياة بالنسبة إليه فرصة ذهبية لا تعوض يُبنى عليها حياة أبدية ، فالمؤمن يكره الموت أكثر من كره الكافر له ، ولكن شتان ما بين الكرهين فالكافر يكره الموت لولوغه في شهواتها وملذاتها الفانية ونسيانه للآخرة وأهوالها مع علمه جيداً بأن الموت سيقطع عنه كل هذه الملذات ، وحين الموت يكره لقاء الله لأنه لم يقدم لآخرته ما يؤهله لرضا مولاه ، والمؤمن يكره الموت أضعاف أضعاف ما يكرهه الكافر وذلك لأنه يقطع عنه طريق الوصول إلى رضا الله والتقرب منه بالأعمال الصالحة من عبادات ومجاهدات وإرشاد وتحبيب عباد الله إلى الله وتحبيب الله إلى عباده .
يؤثر عن أحد الصالحين أنه اجتمع عنده أصحابه وهو يعالج سكرات الموت فبكى ، فقال له أحد أصحابه : أجزعاً من الموت ؟ فقال : لا والله ؛ ولكن أبكي على يوم شديد الحر كنت أصومه ، وعلى ليل شديد البرد كنت أقومه . إذاً فهم يحبون البقاء في الدنيا لا للدنيا وإنما لأنها مزرعة الآخرة ، فشتاؤها ربيع لهم ، حيث ورد من أقوالهم : طال ليله فقمناه ، وقصر نهاره فصمناه ، وصيفها يجاهدون به أنفسهم لأنهم علموا أن أنفسهم أعدى أعداءهم ، وكرههم للموت ما زالوا في الحياة ، فإذا نزل عليهم الموت ، أحبوا لقاء الله فأحب الله لقاءهم ، كما ورد في الحديث الشريف : ( من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه , ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه , فقلت : يا نبي الله أكراهية الموت , فكلنا نكره الموت ؟ قال عليه الصلاة والسلام : ليس كذلك , ولكن المؤمن إذا بُشِّر برحمة الله , ورضوانه , وجنته , أحب لقاء الله فأحب الله لقاءه , وإن الكافر إذا بُشر بعذاب الله وسخطه , كره لقاء الله , فكره الله لقاءه ) أخرجه البخاري ومسلم والترمذي والنسائي ، وفي رواية : ( إذا أحبّ لقائي أحببت لقاءه , وإذا كره لقائي كرهت لقاءه ) .
يقول الإمام علي ( كرم الله وجهه ) في هذا المعنى حكمةً ووعظاً :
ولدتك أمــك يا بن آدم باكيــــــاً … والناس حولك يضحكـون سرورا
فاحرص على عمل تكون إذا بكوا … في يوم موتك ضاحكاً مسرور.