“العهد والبيعة”…أسرار الرباط المقدس بين المريد وشيخه الصوفي_صور

خضوع المريد لشيخه وتسليمه له وقت البيعة

الصوفية اليوم

علاقة وطيدة تجمع بين المريد وشيخه، داخل الطرق الصوفية، لايفرقها أو يمنعها سوى”الموت”، فبجلوس المريد بين يدى الشيخ، وأخذ العهد والبيعة يتحول هذا الشخص من حياة الغفلة والعيش في الملذات، إلى حياة التوبة ومراجعة النفس من خلال التقرب إلى الله، ويتحول أيضا من كونه شخص يقوم بإرتكاب المعاصى والذنوب دون خوف من أحد، إلى شخص آخر، يخاف من معصية المولى سبحانه، وذلك بإستحضار صورة شيخه أو مرشده الذى يرشده إلى طاعة الولى سبحانه، والبعد عن ملذات الدنيا وشهواتها، والشيخ مع مريده يسيره كيفما يشاء.

علاقة غريبة ومتشابكة، ينتقضها البعض، ويمدحها البعض الآخر، وينظر إليها الصوفيون على أنها “الرباط المقدس” التى تجعل المريد يلتزم بآداب الطريق إلى الله، وعدم الإلتزام بالعهد أو نقضه، يعد خيانة لله ورسوله، سيحاسب عليها المريد يوم القيامة بين يدى الله، ويرجع الصوفيون مبدأ البيعة لله ورسوله من خلال الإلتزام بالكتاب والسنة، فصحابة الرسول كان يبايعونه على طاعة الله، وكذلك الصوفيون، يلزمون المريد الجديد على مبايعة الشيخ على كتاب الله ورسوله أن لا يخالف تعاليم الله أو شيخه.

المريدين خلال الحصول على العهد الصوفي

وينتشر مبدأ “البيعة والعهد” داخل الطرق الصوفية، حيث أن جميع المريدين الصوفية حول العالم، ياخذون العهد من شيوخهم، ومع أن المريد فى دولة والشيخ فى دولة آخرى، ولكن العهد الصوفى والبيعة التى يأخذها المريد من الشيخ، تجعل الشيخ يضمن ولاء المريد له وعدم خروجه عن طاعة شيخه، ففى حالة، إنضمام المريد لطريقة آخرى، ينقض العهد مع الشيخ، ويقول شيوخ الطرق الصوفية فى كتاباتهم وآدبياتهم، “أن من لم يصلح عندنا لن يصلح عند غيرنا وننظره إليه على أنه مريداً شارد”،ليس له منبع أو مشرب يأخذ منه علوم وروحانيات وتجليات أهل الله.
ويعرف أهل التصوف “العهد أو البيعة” على إنه الرباط الإلهى والمقدس،الذى يحكم العلاقة بين المريد وشيخه، فالمريد لايصبح مريداً صوفياً، إلا بعد أخذ العهد أمام المريدين الآخرين فى الطريقة، حيث أنه بعد تلقين الشيخ العهد للمريد، يكبر المريدين الآخرون فرحاً بإنضمام مريداً جديداً لطريقتهم، حيث أنه مع كثرة إنضمام المريدين وأخذهم للعهد الصوفى، يجعل ثقة المريدين تزداد فى شيخهم وطريقتهم، حيث أنهم يعتقدون وقتها أن طريقتهم فيها الخير الكثير.

فى الموضوع التالى نثير “قضية البيعة والعهد” داخل الطرق الصوفية ودورها فى تهذيب أخلاقيات المريدين، وهدايتهم إلى الطريقة الصحيح والإلتزام بالأمور الشرعية والدينية، والبعد عن طرق الغى والضلال.

بيعة مريدي العزمية الشاذلية لشيوخهم

فى هذا الإطار، قال الدكتور أحمد المزيدى الباحث الصوفى، إن البيعة أو العهد داخل الطرق الصوفية، هو الدستور الذى يحكم أهل التصوف، فبدون هذا الدستور لايكون هناك أى إلتزام بين المريد وشيخه، فالعهد يبين الواجبات والإلتزمات التى يقوم بها المريد تجاه طريقته وشيخه، كما أنه يجب أن يكون هناك بيعة وعهد بين الشيخ والمريد، فبدون البيعة أو العهد لا يكون هناك أى إلتزام من قبل المريد تجاه تعليمات وتوصيات الشيخ، فهذا العهد يعتبر رباط وثيق وغليظ، يلزم المريد بإتباع التعليمات الدينية التى يفرضها عليه شيخه، كما أن الشيخ والمريد هما قوام أي طريقة صوفية، لذا يجب أن يكون هُناك رابط بين الطرفين، وهذا الرابط يُسمي بـ”العهد أو البيعة”، وهذا العهد هدفه الرئيسى الانتقال بالمريد من الحياة الدنيوية والشهوانية، إلى الحياة البرزخية والروحانية التى تكون لله وفى الله فقط، من خلال مراجعة النفس ومحاسبتها والتقرب إلى الله عزوجل أكثر من أى وقت آخر.

خضوع المريد لشيخه وتسليمه له وقت البيعة

 

شروط وآداب العهد أو البيعة عند الصوفية

أكد الشيخ مصطفى الهاشمى شيخ الطريقة الهاشمية، على أن العهد والبيعة عند أهل التصوف، لها شروط وواجبات، وليس الأمر مفتوح لأى أحد، فالأمر صعب وليس سهل، وحتى يأخذ المريد الصوفى العهد، يتعرض للعديد من الإختبارات والإمتحانات، وهذا يؤكد أن الدخول والإنضمام للطرق الصوفية، ليس سداح مداح مثلما يقول بعض الجهلاء والدخلاء الذين لايعلمون حقيقة التصوف.

فأول شروط الحصول عى العهد الصوفى ، هو أن يُشهد المريد المولى عزوجل أنه باع الدنيا وطلقها للأبد وأنه سيوهب حياته كلها لله، وهذا ليس أختراع أو تحايل من أهل التصوف، حيث يرجع السادة الصوفية هذا الأمر، إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، عندما قال “لايؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه مما بين جنبيه،ويقصد رسولنا الكريم “النفس”، فكذلك يفعل الصوفية، فهم يجعلون المريد يضع الله سبحانه وتعالى والرسول الكريم، قبل أى شىء آخر.

وتابع “الهاشمى” أن العهد أو البيعة عند السادة الصوفية له أسلوب وطريقة معينة يأخذ بها، حيث يجلس المريد أمام شيخه وهو في قمة الانكسار والأدب والاحترام، ويجب أن يكون طاهر البدن، مرتديا لجلباب أبيض،أو ثياب نظيفة إشارة إلى أنه أنتقل من حياة المعاصى والذنوب إلى حياة المغفرة والطاعة والتذلل إلى الله، وبعد أن يلقن الشيخ العهد للمريد يقوم المريد بالصلاة ركعتين بنية التوبة النصوحة، وأن يكون حسن النية، وأن يجلس في اتجاه القبلة، وينظر إلى شيخه، ويكون مستعدًا لما سوف يلقنه به شيخه ليردد ما يقوله بالضبط، وعند الانتهاء من مرحلة التلقين، يقوم المريد بمصافحة شيخه، لأن المصافحة سنة نبوية، أي أن المصافحة تجعل المريد وشيخه يتصلون بروح رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم، بحسب اعتقاد سادتنا أهل الطريقة.

وأوضح ” الهاشمى” أن كل طريقة صوفية، لها طقوس في أخذ العهد فمنهم من يقوم بجعل المريد يرتدى عمامة خضراء أو حمراء أو صفراء، حيث أن كل طريقة صوفية له رمز ولون خاصة مختلف عن الطريقة الأخرى، والبعض الآخر يقوم بوضع قطعة قماش على رأس المريد والشيخ أثناء أخذ العهد، وهناك طرق صوفية تمتلك ” خرقة” وهى قطعة من القماش، حيث تقوم كل طريقة بجعل المريد يمسك بها خلال أخذه للعهد، حيث تعتبر هذه الخرقة، أمر مقدس عند بعض الطرق.
وأشار “الهاشمى” أنه عندما يضع المريد يده في يد الشيخ، يتم تلقينه آية العهد وهي الآية 91 من سورة النحل:«وَأَوْفُواْ بِعَهْدِ اللّهِ إِذَا عَاهَدتُّمْ وَلاَ تَنقُضُواْ الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا إِنَّ اللّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ»، وكذلك الآية 10 من سورة الفتح:«إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ ۚ فَمَن نَّكَثَ فَإِنَّمَا يَنكُثُ عَلَىٰ نَفْسِهِ ۖ وَمَنْ أَوْفَىٰ بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا».

وأضاف “الهاشمى” أنه بعد قيام الشيخ بقراءة أيه العهد، يقوم الشيخ في تلقين المريد لـ«الورد الصوفى» الذي تضعه كل طريقة لنفسها، وجميع الطرق الصوفية في مصر والعالم الإسلامي لها ورد يومي معين، لكن في الأساس يكون موجودا في أي ورد يومي الاستغفار والصلاة على النبي محمد صلى الله عليه وسلم.

أتباع الشبراوية الصوفية يبايعون شيخهم

 

فى السياق ذاته، قالت حورية بن قادة الباحثة بمركز الإمام الجُنيد للدراسات والبحوث الصوفية إن إهتمام الصوفية بالممارسات أو الشعائر الدينية بصفة خاصة، لما لها من أهمية في ترقي المريد والوصول به لأسمى مقامات اليقين، كما تمد المشتركين فيها ببعض أساليب ووسائل الضبط حيث إنها تحدد طبيعة علاقاتهم بالآخرين وبالعالم المحيط بهم، ومن أُولى هذه الشعائر والممارسات: “العهد أو ما يسمى بالبيعة عند الصوفية”، فإذا كان الطريق الصوفي يتشكل ويتكون من شيخ ومريد، فإن الذي يربط بينهما: العهد والبيعة، فإن العهد هو أوثق رباط بين رجلين تحابّا في الله وتعاهدا على طاعته، إنها بيعة لله، وفي الله، ولله، وبالله، قال تعالى: ﴿لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة فعلم ما في قلوبهم، فأنزل السكينة عليهم وأثابهم فتحا قريب﴾.

وتابعت “بن قادة”أن الصوفية يرجعون العهد أو البيعة الصوفية، إلى قوله تعالى ﴿إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله يد الله فوق أيديهم﴾، والعهد أو ما يسمى بالمبايعة للشيخ معناه: الأخذ والتلقي، ومبايعة الشيخ عند الصوفية، هي تجديد لمبايعة رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذ المشيخة في الدين وراثة النبوة، والبيعة عقد إلزامي يلزم المريدين بالوفاء بالعهد لقوله تعالى: ﴿وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها وقد جعلتم الله عليكم كفيلا﴾، والمناط العملي للبيعة الصوفية هو السلوك والأخلاق، وما يجب على المريد عمله تجاه ربه، وما ينبغي أن يكون عليه حيال البشر أو الخليقة بوجه عام،وهذا المعنى متحقق في العهد عند الصوفية، حيث يقصد بأخذ العهد على المريد أن يحافظ على الواجبات والآداب الشرعية، ويراعي ما يلقنه له شيخه من الأذكار والأوراد والمجاهدات حالا بعد حال، ولا يهملها ولا يغفل عنها، فالمقصود بالعهد عند الصوفية هو التأكيد على السالك والمريد بالانتقال من حياة الغفلة وغلبة الشهوات إلى حياة التوبة والمراجعة للنفس، والبحث عن عيوبها، والإقبال على الله، فيتحقق بهذا العهد التأكيد على الانتقال من حال إلى أخرى، ومن مرحلة إلى مرحلة جديدة.
وأوضحت “بن قادة” أن الإمام السّهروردي وهو أحد شيوخ الصوفية الكبار يقول في ذلك : أن “لبس الخرقة والمراد بها “العهد والمبايعة” هو ارتباط بين الشيخ وبين المريد، وتحكيم من المريد للشيخ في نفسه، والتحكيم سائغ في الشرع لمصالح دنيوية، فماذا ينكر المنكر للبس الخرقة على طالب صادق في طلبه، يتقصد شيخا بحسن ظن وعقيدة، يحكمه في نفسه لمصالح دينه، يرشده ويهديه، ويعرفه طريق المواجيد، ويبصره بآفات النفوس، وفساد الأعمال، ومداخل العدو”، وبالتالي فإن العهد الصوفي بين الشيخ والمريد معاهدة يلتزم بمقتضاها المريد بفعل المأمورات (العبادات)، وترك المعاصي، والتتلمذ للشيخ واتباع طريقته والالتزام بقواعد وآداب الطريق، والمداومة على الأذكار والأوراد، والحقيقة الراسخة عند الصوفية أن هذا العهد يمثل رمزا للمعاهدة بين الله سبحانه وتعالى وبين المريد، لأن يد الشيخ في المصافحة أثناء العهد هي رمز لبيعة رسول الله صلى الله عليه وسلم التي قال فيها سبحانه وتعالى: ﴿إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله﴾، فالعهد رباط مقدس لا يستطيع المريد أن يتحلل منه، لذلك يتوخى المشايخ عدم التسرع في إعطاء العهود للمريدين ليتأكدوا من عزمهم وصدقهم وإخلاصهم ومدى جديتهم في الطريق، وطاعتهم للشيخ الذي يعتبر مرشدا لهم كممثل للطريقة المنتمي إليها، والعهد هو وصلة دنيوية رمزية بين المريد والشيخ الذي يعلوه.

بيعة العشيرة المحمدية الصوفية

 

الفرق بين بيعة الصوفية وبيعة الإخوان المسلمين

قال الدكتور سيد مندور الداعية الصوفي، إن هناك فرق كبير بين البيعة عند اهل التصوف والبيعة عند جماعة الإخوان المسلمين، فالبيعة عند الصوفية مقصود بها السعى فى طريق الله ورسوله، وإتباع ما أمر الله به، والإنتهاء عما نهى عنه، أم بالنسبة للعهد أو البيعة عند جماعة الإخوان هى مختلفة عن ذلك تماماً فالبيعة عندهم تكون بإستخدام المصحف والمسدس، أم الطرق الصوفية، لاتشترط أن تكون المبايعة بوجود مصحف أو سلاح، فهى تكون يداً بيد من الشيخ للمريد، كما أن بيعة الإخوان لاتكون خالصة لله ورسوله مثل بيعة الصوفية، حيث أن الإخوان يسعون من إعطاء البيعة للفرد المسلم، السيطرة عليه، وإجباره وإلزامه بأمور تكون خطر على الوطن والدولة التى يعيش فيها هذا الفرد المسلم، فالإخوان يطالبون الشباب بقتل أنفسهم خدمة للدين والدعوة، ولذلك هم إستخدموا “السمع والطاعة” الموجودة فى العهد أو البيعة إستخدام خاطىء.

وتابع” مندور” أن الإخوان المسلمين سرقوا مسمى العهد أو البيعة من “السادة الصوفية”، حيث أنهم قالوا على أنفسهم أن دعوتهم حقيقة صوفية، وهذا غير صحيح فأهل التصوف بعيدين تماماً عن القتل والذبح والتفجيرالذى يقوم به الإخوان، وعلى ذلك هم كاذبون والتصوف برىء منهم، وبيعتهم ليست خالصة لوجه الله ورسوله، وعلى ذلك نقول أن هناك فرق السماء والأرض بين بيعة الصوفية وبيعة الإخوان.

خلال بيعة مريدي الجهرية النقشبندية لشيخهم اليماني

“البيعة الصوفية” إمتداد لبيعة الصحابة للرسول

قال الشيخ نضال المغازى شيخ الطريقة المغازية الصوفية، إن بيعة مشايخ الصوفية،هى إمتداد لبيعة الصحابة رضوان الله عليهم، للرسول صلى اله عليه وسلم، وبيعة أهل التصوف ما هى إلا تذكير بذلك العهد- “بيعة رسول الله صلى الله عليه وسلم”-، والحثّ على العمل بمقتضاه، وزيادة على الربط الروحي الذي يقع بين المريد والشيخ الذي يأخذ على يده البيعة، فيتزكّى على يد ذلك الشيخ، وتصفى روحه وقلبه، حتى يراعي ذلك العهد، وإنما مراعاة ذلك العهد بالتمسك بالشريعة والعمل بها.

تابع ” المغازى ” قائلا: الحاصل أن تزكي الروح وتصفيتها وسلامة القلب من شهوات الدنيا كل ذلك ما أحبه الله تعالى لعباده وأمر به، فإذا وقع ذلك للعبد، وقع له القرب من الحضرة الإلهية، وذلك يقتضي أن يكون المؤمن عندئذ يبصر بالله، وينطق بالله، ويسمع بالله، فيكون سمعه من سمع الله، وبصره من بصر الله، وبطشه من بطش الله، فتخرق له العادة، وليس ببعيد أن يسمع خطاب ﴿ألست بربكم﴾، عيانا كما يسمعه الأولياء، وكما سمعته ذرية آدم- عليه السلام- عندما أشهدهم الله تعالى على أنفسهم في عالم الذر، فسماعه لهذا النداء مقام عظيم، لكنه لا يقع إلا بعد تزكية القلب والنفس، وهما لا يأتيان إلا ببيعة شيخ عارف بالله، له خبرة بتزكية القلوب وتطهيرها.

وأوضح ” المغازى ” أنه لابد لكل مسلم من البيعة ليسير مع شيخ يزكيه ويرشده حتى وإن كان عالما، (وذلك لأنه لا يكفي عند الصوفية في سلوكهم إلى طريق الله سبحانه وتعالى مجرّد العلم، فمجرد قراءة كتب التصوف عندهم، بلا معاناة لتهذيب النفس ومجاهدتها، إنما تعد متعة ذهنية، وثقافة عقلية، قد تشارك فيها النفس الأمارة بالسوء، فتكون طريقا إلى الضلالة، أما المنح الروحية من الله تعالى فهي نتيجة الجهود والأعمال، فالصوفية أرباب أحوال، لا أصحاب أقوال، وعندهم لم ينل المشاهدة من ترك المجاهدة)، فالعلم يحتاج إلى عمل، والسلوك هو العمل، ويحتاج إلى تزكية وتهذيب القلوب وأمراض النفوس، ولذا نجد أن أخذ العهد لم يكن قد حدث في زمننا هذا أو قبل مائة سنة أو أكثر، بل اتصل سند البيعة من رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى زمننا هذا، يأخذها عَلَم عن عَلَم، وكبير عن كبير، من ذلك ما ورد في فضل أبي حنيفة- رضي الله عنه- أن الأستاذ أبا علي الدقاق قال: “أخذت هذه الطريقة من أبي القاسم النصراباذي، وقال أبو القاسم: أنا أخذتها من الشبلي، وهو أخذها من السري السقطي، وهو من معروف الكرخي، وهو من داوود الطائي، وهو أخذ العلم والطريقة من أبي حنيفة، وكل منهم أثنى عليه وأقرّ بفضله”.

أسيويين ومصريين في إحدى الساحات الصوفية

فى السياق ذاته، قال خالد الشناوى الباحث المتخصص فى التصوف، إن البيعة والعهد عند أهل التصوف،أمر مقدس، وفي ذلك يقول الإمام السهروردي: “المريد الصادق إذا دخل تحت حكم الشيخ وصحبته، وتأدب بآدابه، يسري من باطن الشيخ حال إلى باطن المريد، كسراج يقتبس من سراج، وكلام الشيخ إلى المريد بواسطة الصحبة وسماع المقال، ولا يكون هذا إلا لمريد حصر نفسه مع الشيخ، وانسلخ من إرادة نفسه، وفنى في الشيخ بترك اختيار نفسه، فبالتآلف الإلهي يصير بين الصاحب والمصحوب إمتزاج وارتباط بالنسبة الروحية، والطهارة الفطرية، ثم لا يزال المريد مع الشيخ كذلك متأدبا بترك الاختيار، وحتى يرتقي من ترك الاختيار مع الله تعالى، ويفهم من الله كما كان يفهم من الشيخ، ومبدأ هذا كله الصحبة والملازمة للشيوخ والعهد والبيعة مقدمة ذلك”.

وأوضح ” الشناوى” أن أخذ العهد ليس أمرا مبتدعا من الصوفية كما يدعي البعض بل إنه ثابت في القرآن والسنة وسيرة الصحابة، فمن القرآن: قال تعالى: ﴿إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله يد الله فوق أيديهم فمن نكث فإنما ينكث على نفسه ومن أوفى بما عاهد عليه الله فسيؤتيه أجرا عظيما﴾.

وقال تعالى أيضا: ﴿وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها وقد جعلتم الله عليكم كفيلا﴾،وقال عز وجل:﴿وأوفوا بالعهد إن العهد كان مسئولا﴾، ومن السنة: فقد أخرج البخاري في صحيحه عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه وكان شهد بدرا وهو أحد النقباء ليلة العقبة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال، وحوله مجموعة من أصحابه-: “بايعوني على أن لا تشركوا بالله شيئا، ولا تسرقوا، ولا تزنوا، ولا تقتلوا أولادكم، ولا تأتوا ببهتان تفترونه بين أيديكم وأرجلكم، ولا تعصوا في معروف، فمن وفى منكم فأجره على الله، ومن أصاب من ذلك شيئا فعوقب في الدنيا فهو كفارة له، ومن أصاب من ذلك شيئا ثم ستره الله فهو إلى الله، إن شاء عفا عنه، وإن شاء عاقبه، فبايعناه على ذلك”.

وأشار ” الشناوى” أنه الامام علي- كرم الله وجهه- سأل النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: “يا رسول الله دلني على أقرب الطرق إلى الله، وأسهلها على عباده، وأفضلها عنده تعالى”، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: “عليك بمداومة ذكر الله سرا وجهرا”، فقال علي: “كل الناس ذاكرون فخصني بشيء”، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “أفضل ما قلته أنا والنبيون من قبلي: لا إله إلا الله، ولو أن السموات والأرضين في كفة ولا إله إلا الله في كفة لرجحت بهم، ولا تقوم القيامة وعلى وجه الأرض من يقول: لا إله إلا الله”، ثم قال علي: “فكيف أذكر؟” قال النبي صلى الله عليه وسلم: “غمّض عينيك واسمع مني لا إله إلا الله ثلاث مرات، ثم قلها ثلاثا وأنا أسمع، ثم فعل ذلك برفع الصوت”، ورُوي عن جرير بن عبد الله أنه قال: قلت: يا رسول الله، اشترط عليّ فأنت أعلم بالشرط. قال: “أبايعك على أن تعبد الله وحده، ولا تشرك به شيئا، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتنصح المسلم، وتبرأ من الشرك”.

صوفية إندونيسيا خلال اخذ البيعة

 

الصوفية أخذوا نظام البيعة من الإسلام

قال الدكتور علاء أبوالعزائم، شيخ الطريقة العزمية، عضو المجلس الأعلى للطرق الصوفية، إن البيعة عند أهل التصوف، ليست مصطنعة أو مبتدعة، بل أنها مأخذوة من مبايعة الصحابة رضوان الله عليهم لـ”الرسول “صلوات الله وسلامه عليه، ونزلت آيات القرآن الكريم فى هذا الأمر، “حيث قال المولى سبحانه ﴿إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله﴾، وكانت بيعة أبي بكر رضي الله عنه: “تبايعوني ما أطعت الله”، وكانت بيعة عمر رضي الله عنه ومن بعده كبيعة النبي صلى الله عليه وسلم، وخلاصة القول فإن الصحابة رضوان الله عليهم كانوا يبايعون رسول الله صلى الله عليه وسلم على حالات مختلفة، منها بيعتهم على الإسلام، وبيعتهم على أعمال الإسلام، وبيعتهم على الهجرة، وعلى النصرة والجهاد، وبيعتهم على الموت، وبيعتهم على السمع والطاعة.

وتابع “ابوالعزائم” أن أهل التصوف لم يخالفوا الكتاب أو السنة، فى الإلتزام بنظام البيعة، وللأسف بعض التيارات السلفية، تعتبر أن الصوفية يخالفون الاسلام بالبيعة، وهذا غير صحيح، فليس هناك مخالفة شرعية، ولا يعد متعارضا مع أصول الشريعة، ونصوص الكتاب والسنة تشهد له، بل إن تلك المعاهدات والبيعات قد كان لها من الأثر في الإصلاح والتزكية أقوى شأن وأوفر نصيب.

Facebook
Twitter
Telegram
WhatsApp

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *