بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه أما بعد: فإنَّ العلماءَ الرَّبانيينَ هم (النُّجوم المضيئةُ) في سماء هذا العالمِ فبهم يهتدي النَّاسُ في مساربِ هذه الحياةِ فإذا غابوا أو غُيِّبوا سادَ الظلامُ الدَّامسُ أرجاء الأرض ، وتخبَّطَ الخلقُ في دياجيرِ الظلمةِ ؛ فلا يعرفونَ طريقاً ، ولا يهتدونَ سبيلاً ؛ كما قال أحدُ السلفِ-رحمه الله- : ((مثل العلماء مثل النجوم التي يُهتدى بها، والأعلام التي يُقتدى بها ، إذا تغيَّبتْ عنهم تحيَّروا ، وإذا تركوها ضَلُّوا)) أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه .
وكُلَّما عصفتْ بالأُمَّةِ رياحُ الفتنِ العاتيةِ ، وضَربتْ بها أعاصيرُ المحنِ القاسيةِ ؛ عَظُمتْ الضَّرورةُ إلى هذا الطراز الفريدِ من أهل العلمِ ، وصارتْ الأُمَّةُ في مسيس الحاجة إليهِ .
ويتَّسِمُ العالم الرباني بصفاتٍ ساميةٍ جليلةٍ لعلَّ أبرزها ما يلي :
1- الرُّسوخُ في ميراثِ الأنبياءِ عليهم الصَّلاةُ والسَّلامُ وهو العلمُ القائمُ على الوحيِ المنزلِ من عند اللهِ عَزَّ وجلَّ فَعَنْ أبي الدرداء رضي الله عنه قال : قال رسولُ الله صلَّى الله عليه وسلَّم : (…وَإِنَّ الْعُلَمَاءَ وَرَثَةُ الأَنْبِيَاءِ وَإِنَّ الأَنْبِيَاءَ لَمْ يُوَرِّثُوا دِينَارًا وَلاَ دِرْهَمًا وَرَّثُوا الْعِلْمَ فَمَنْ أَخَذَهُ أَخَذَ بِحَظٍّ وَافِرٍ) أخرجه أبوداود في سننه وإسناده صحيح.
يقول ابن قيم الجوزية رحمه الله في شأن العلماء الرَّبانيين هم : ((ورثة الرسل وخلفاؤهم في أممهم ، وهم القائمون بما بعثوا به علماً وعملا ودعوة للخلق إلى الله على طرقهم ومنهاجهم ، وهذه أفضل مراتب الخلق بعد الرسالة والنبوة …وهؤلاء هم الربانيون وهم الراسخون في العلم وهم الوسائط بين الرسول وأمته فهم خلفاؤه وأولياؤه وحزبه وخاصته وحملة دينه…).
2- التَّمسُّكُ بمنهاج النبوةِ القائمِ على هدي الرَّسولِ صلَّى الله عليه وآله وسلَّمَ وهدي الخلفاءِ الراشدينَ وأهل بيته الطيبين الطاهرين ومن صار على نهجهم من أئمة الأمة.
3- خشية الله عز وجلَّ ؛ كما قال تعالى-في شأن أهل العلم- : {قُلْ آمِنُواْ بِهِ أَوْ لاَ تُؤْمِنُواْ إِنَّ الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ مِن قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ سُجَّداً}[الإسراء : 107].
4- الصبرُ واليقينُ ؛ كما قال تعالى : {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ }[السجدة : 24]، قال بعض العلماء: بالصبر واليقين تُنال الإمامةُ في الدِّين
5- العملُ بمقتضى العلم .
6- الدِّراسةُ الذَّاتية والقراءةُ الواعيةُ للفهمِ والإدراكِ .
7- تعليم العلمِ وتربية الناسِ على صغارهِ قبل كبارهِ .
8- الحكمة .
9- الحلم .
10- الفقه .
11- ثباته في الفتن المضلة المظلمة، ورسوخ قدمه في مواطن الشبهات، حين تضل الأفهام وتزل الأقدام.
قال ابن القيم رحمه الله: “الراسخ في العلم لو وردت عليه من الشبه بعدد أمواج البحر ما أزالت يقينه ولا قدحت فيه شكا لأنه قد رسخ في العلم فلا تستفزه الشبهات بل إذا وردت عليه ردها حرس العلم وجيشه مغلولة مغلوبة” (مفتاح دار السعادة [1/140]).
12- من أبصر الخلق بالفتن ومضارها وعواقبها وما يصلح فيها من الكلام والفعل، قال الحسن البصري: “الفتنة إذا أقبلت عرفها كل عالم؛ وإذا أدبرت عرفها كل جاهل” (الطبقات الكبرى لابن سعد [7/166]).
إن المتبصر في حال أمتنا اليوم يجد أنها أحوج ما تكون إلى العلماء الربانيين يرشدونها إلى طريق الحق والهدى والنجاة خاصة في ظل هذه الفتن المتراكمة والمحن المتلاطمة التي تعصف بالأمة الإسلامية من كل جانب من تكفريين وجهاديين وظلاميين ومتأمرين وضالين مضلين وعملاء وغيرهم كثير، قال تعالى: {مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَٰكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ} [آل عمران:79].
وقال تعالى: {لَوْلا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ} [المائدة:63].
وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم عنهم: «وإن العلماء ورثة الأنبياء وإن الأنبياء لم يورثوا دينارًا ولا درهمًا وإنما ورثوا العلم فمن أخذه أخذ بحظ وافر» (أخرجه أبو داود في سننه رقم [3641]، والترمذي في سننه [2682]).
قال العلامة المناوي رحمه الله: “لأن الميراث ينتقل إلى الأقرب وأقرب الأمة في نسبة الدين العلماء الذين أعرضوا عن الدنيا وأقبلوا على الآخرة وكانوا للأمة بدلاً من الأنبياء الذين فازوا بالحسنيين العلم والعمل وحازوا الفضيلتين الكمال والتكميل” اهـ ( فيض القدير [4/374]).