موروث الجهرية من وجهة نظر النقشبندية (الجزء الرابع)
(الآداب المتوارثة حصون دفاعية تحمي دين الإسلام)..بقلم فضيلة الشيخ عبد الرؤوف اليماني الحسني مرشد صوفية الصين
أوّلا: آداب الأسلوبين المعرفي والفكري التي بها تُنال أنعُم الله
آداب الظاهر
عند “مجمع البحرين” (إشارة للآية 60، الكهف) – أي عندما يلتقي المريد بمرشده – لا يتجرّأ على النظر إلى وجهه، مماثلا في إذعانه وخضوعه عبدا لاجئا ماثلا أمام الإمبراطور. لذا، لا تجلس في حضرة مرشدك بشكل غير رسمي، ولا تبادر في سؤاله عمّا يشغلك إلّا إن تعلّق الأمر بالفقه، الشريعة أو الطريقة. كما أنّه لا يجوز في الميراث طرح الشؤون الخاصّة أو الأمور التي لا قيمة لها بشكل عرضي، أو التحدّث بكلّ ما تريد، أو محادثة الموجودين في مجلس الشيخ.
كما أنّه على الحاضرين الالتزام بالصمت حتّى وإن كان الواحد منهم شيخا أو رئيسا (قائدا للمريدين)، مُظهرِين لآداب التواضع والطاعة والوقار والاحترام. عند الجلوس قبالة المرشد يجب التوجّه إليه بشكل مستقيم، ومواجهته بالوجه لا بالظهر دون إمالة للجسم، كآداب الصحابة مع النبيّ ﷺ وآداب المسلمين مع الصحابة.
عندما تتعامل مع الشيخ وفقا لهذه الآداب ينفتح لك باب الرؤيا الصادقة، الذي من خلاله ترى النبيّ ﷺ في منامك. جاء في الأثر أنّ رسول الله ﷺ قال: “علماء أمّتي كأنبياء بني إسرائيل”. وأنّه قال: “إنّ العلماء ورثة الأنبياء”. وأنّه قال: “الشيخ في قومه كالنبيّ في أمّته”.
اُعتُبرت هذه الأحاديث الثلاثة أساسا استُمِدّت منه شروط الآداب النقشبندية التي لا بدّ أن يخضع لها العالِم الحقيقي الملتزِم بالمذهب والعارف بالله.
لا ترفع صوتك فوق صوت شيخك أو والديك لئلّا تَحبَط أعمالك وأنت لا تشعر، وهي الآداب عيْنُها التي فرضها الله على الصحابة في القرآن. ثمّ لا تتحوّل من ضيف إلى مُضيف (أي اترك الشيخ يأخذ بزمام الكلام ولا تتكلّم حتى يُأذن لك)، وإلّا فقد خالفت الآداب.
أمّا في الجهرية، فإنّ آداب الظاهر أرخى. فيُسمح بسؤال الشيخ عن كلّ الأمور، سواء الإسلامية منها أو الدنيوية أو حتّى الخاصّة، شرط تحرّي اللحظة المناسبة. فَعَلَنًا، لا تتحدّث إلّا عن الأمور العامّة أو المتعلّقة بالإسلام. أمّا على انفراد، فَلك حريّة السؤال عن أيّ موضوع تشاء. ويشمل ذلك وقت مصادفة الشيخ في الخارج، حيث يمكنك إلقاء التحية وطرح الأسئلة والتحدّث بكلّ ما تريد. وكلّها أمور مسموح بها.
لا تقمع من علا صوته على صوت مرشده، بل وصّه فقط بمراعاة الآداب، فآداب الظاهر في الجهرية ليست بالصرامة التي كانت عليها آداب الظاهر بين النبيّ ﷺ وصحابته.
أصناف الناس الثلاثة الخارجة عن نطاق الآداب:
أ. الحمار يحمل على ظهره أسفارًا (كتبًا)
يضمّ كتاب “شرح أسرار الدين الإسلامي الخفيّ” طُرُقا يتمّ التعرّف بها على هذا النوع من الناس. فحين تلتقي عالِما، أخبره أنّه أعلم الناس وأنّ لا أحد يضاهيه. فإن كان جوابه: “إنّما أنا عبد من عباد الله، كلّ ما أعرفه نقطة من محيط، وقطعا هنالك دومًا من هو أعلم”. فاعلم أنّه عالِم حقيقي، ووجب احترامه. أمّا إن سَعِد بسماع إطرائك وبدا راضيًا عن ذاته، فهو حمار يحمل على ظهره أسفارا.
عندما تلتقي عالِما، أخبره أنّه يوجد من يفوقه علما وتقوى. فإن قال: “أخبرني من يكون، فلا بدّ لي من زيارته”. فاعلم أنّه عالِم حقيقي، ووجب احترامه. أمّا إن أنكر حديثك وغضب منه واستاء، فهو الحمار الذي يحمل على ظهره أسفارا.
ب. التناقض
إن كان المرء حسَن الحديث، يتكلّم بلسان الدّين، لكنّه لا يقوم بواجباته تجاه زوجته وأبنائه ووالديه وأقاربه وجيرانه وأصدقائه طبقا لما جاء في القرآن، فاعلم أنّه شخص متناقض. مِثلُه لا يفي بوعده، ولا يوافق قولُه فعلَه.
ج. العالِم الزائف (من يقول ولا يفعل)
لَدى هؤلاء عِلم، غير أنّه مجرّد أقوال بلا أفعال. يقول الله تعالى: {يا أيّها الذين آمنوا لمَ تقولون ما لا تفعلون} [الصف، 2 و3]. غضِب الله عليهم إذ لا يفعلون ما يقولون، لذا سُمُّوا بالعلماء الزائفون. ويقول الله تعالى: {أتأمرون الناس بالبرّ وتنسون أنفسكم وأنتم تتلون الكتاب أفلا تعقلون} [البقرة، 44]. وهُمْ بذلك قد خرجوا عن نطاق الآداب.
آداب الباطن
عندما يكون المريد غير حريص على التخلّق بآداب الباطن وغير مهتمّ بالثبات عليها، فيحدث أن يصادِف عائقا أو يتعرّض لاختبار أو يعاني من مصيبة أو مرض أو إعاقة، عندها ستُشوَّش أفكاره وتغدو غير منطقية وتتّقد مشاعر الكراهية في قلبه، وبالتالي يُفصَل قلبه عن قلب هادِيه.
لذا، كن ممتنّا على الدوام مهما كانت ظروفك، سواء أكنت في السرّاء أم في الضرّاء، في الصحّة أم في المرض، راضيا أم محبَطا، فالامتنان مظهر من مظاهر آداب الباطن. كن حامدا لله في كلّ وقت، قانتا مطيعا خاضعا له، راضيًا عنه سبحانه في كلّ شيء ما دام الأمر كلّه لا يخرج عن مشيئته. كن راضيًا بذلك، كما ينبغي للعبد أن يكون.
“إلهي إن أدخلتني جنّتك فأنا راض، وإن أدخلتني نارك فأنا راض، وطالما هي إرادتك فأنا كُلّي رضا ما بقي الزمن”.
بالتزام المرء بنمط فكري مثيل، يَكتسب آداب الباطن وتتحقّق فيه. فإن هي تحقّقت فيه، صار الميراث النقشبندي نوعا من الحصون الدفاعية التي تحمي الإسلام. فمثلا إن عايش المريد أمرا على غير هواه، ثم نسبه إلى نفسه لا إلى مرشده، اندثرت تدريجيا كل خواطره المزعجة والمؤلمة. أمّا إن حصل عكس ذلك، تضاءل حضوره في ذاكرة مرشده مع الوقت ولربّما اختفى تماما. لذا، كن حاضرا بقلبك مع شيخك على الدوام لِكَيلا تتلاشى ذكراك من فكره وذاكرته.
وطالما أنّ هويّة المرشد حقيقية، فلكلّ من مريديه مساحة خاصّة في قلبه. ومجازا، تُعتبر مصيبةُ وخسارةُ من فقد حياته ساقطا من أعلى سماء أهون من مصيبةِ سقوطه من قلب مرشده، لأنّ سقوطه من قلب مرشده يُخرجه من عناية الله ورعايته، وبالتالي تموت روحه وإيمانه. وهي الخسارة الكبرى فيما يتعلّق بآداب الباطن.
عند مجمع البحرين – أي وقت لقاء شيخك – كن حاضرا بقلبك معه حضورا مُفعَما بالحبّ والاحترام والإجلال، وكُلّك أمل في نيل رعايته. حينئذ ستعمّ قلبكَ حالةٌ من الإحساس بعنايته، وهي النعمة التي يرجوها كلّ مريد من ربّه. سينبثق “الحبّ الحقيقي” في قلبك تلقائيا، ويترسّخ إيمانك وتستشعر النعيم حيثما كنت. نعيم يأتيك على شكل إلهام لا يُدرَك بالحسّ. نعيم يتمثّل في إحساس الرضا، أنْ ربّي قد أرضاني. فتتذوّق حلاوة الإيمان وتصيب من فضل الله ما شاء.
النعمة التي تتأتّى بخالص الإيمان تكون خفيّة في البداية، وتأتي بدون إشارة أو إحساس. إن أنت حصّلت هذه النعمة غدوت مريدا حقيقيّا راسخ الإيمان، وكأنّك صاحبت النبيّ ﷺ في عهده وانضممت إلى زمرة الأنبياء والأولياء. والعطاء نفسه تحوزه إن أنت اتّبعت الخلفاء (شيخ كل جيل). كلّ هذه النعم تُدرك بأمرين لا ثالث لهما: فضل الله تعالى ومحبّة رسوله الكريم ﷺ.
إنّه شعور لا يمكنك وصفه، بَيْد أنّك تدركه بقلبك. غالبًا ما يكون لدى المريد حالة من التطلّع إلى لقاء المرشد. عند حدوث ذلك، وبعد حضور قلبك مع قلب مرشدك، لا تُطِل البقاء، وعُدْ بمجرّد انتهاء الحديث وإتمام الأمر، لئلّا تكون سببا في شعور الشيخ – ولو بقدر طفيف – بعدم الارتياح، فما زاد عن حدّه انقلب إلى ضدّه.
تَشكَّل في هذا الميراث حالٌ قلبي، يجعل المريد حامدا وشاكرا لربّه على كلّ ما قُدِّر له، متنبّها لحالة قلبه الشعورية أثناء عيشه لتلك الأقدار، ومُبقيا على حال من الرضا باستمرار.
ثانيا: تفسيرات حول بعض نقاط الإجماع الموروثة عن النقشبندية
يميل الأشخاص السطحيون إلى الاهتمام بالمظاهر وتجاهل الباطن. يدركون وجود الروح بينما يغفلون عن ماهيتها، وينصبّ اهتمامهم على الظاهر بينما يهملون الباطن والحقيقة، فيُحرَمون – بلا وعي منهم – من النعيم الباطني (النِّعم التي تُدرك بالقلب). ذلك أنّ المرشد يعامل المريد المَعْنِيّ بالمظاهر بمعاملات ذات طابع سطحي دنيوي (أي ما يهمّ المريد من متاع الدنيا)، ويعامل المَعْنِيّ بالباطن بمعاملات ذات طابع باطني (أي ما يهدي روحه ويغذّي قلبه من معرفة). غالبًا ما يرتكز ضعيف اليقين في حكمه على تخمينات باطلة أو شكوك أو خيال شخصي، فينتهي به الأمر بتقدير مغلوط واستنتاج خاطئ. وكلّ هؤلاء يميلون إلى المظاهر ولا يُلقون بالا للباطن.
تتواجد روح الشيخ على الدوام في نطاق مستقلّ (العالم الروحي اللامادي)، حيث “لا يمكن لأيّ من الخَلق أن يجعله يغفل عن ذِكر الخالق، ولا يمكن للذِّكر أن ينسيه أيًّا من الخَلق”. قد يعتقد الجاهل الأحادي التفكير – حيث لا يستوعب قدرة المرشد الروحية التي تخوّل له أن يكون حاضرا مع الله ومع جميع مريديه في الوقت ذاته – أنّ مرشده لا يقدّره أو يستصغره أو حتّى يحتقره، أو ربّما يعطي قيمة لغيره ويهمله، أو يتجاهله أو يظنّ به ظنّ السوء، فتختلّ بذلك موازينه، وأنّى له في حالاته هذه أن ينال أنعُم الله؟
يُروى أنّ الرسول ﷺ قال أنّ الله سبحانه وتعالى قال: «لم تسعني أرضي ولا سمائي ولكن وسعني قلب عبدي المؤمن». قلب المؤمن عرش الرحمان، يسع الصفات لا الذات. إن وسع قلب المؤمن ربَّه، أحسَن الظنّ بكلّ شيء، وبحسن نيّة قدّر الأمور وحلّلها. وإن لم يسعه، أنكر الوسيلة (دور المرشد) لا محالة. لذا لا يُقْبل المريد في قلب مرشده حتّى يجعل علماء الحقيقة وشيخ الطريقة وسيلته للتقرّب إلى الله.
لا موجود غير الله. الله أصل الوجود. ولو لم تكن صفته الخَلق، لما كان للعوالم وجود. سُمّيت العوالم وهمًا لأنّها موجودات مؤقّتة، تزيد وتنقص وتتغيّر، ولها بداية ونهاية. وبمقتضى الإجماع، لا بدّ من وجود واسطة بين المريد وربّه. بدايةً، كانت الواسطة تتمثّل في نبيّ كلّ زمان، وبعدها أضحت خاتم النبيّين ﷺ. انتهى زمن الأنبياء بِالتحاقه ﷺ بالرفيق الأعلى، وحلّ محلّه زمن الخلفاء (مرشد كل عصر)، إذ لا بدّ من هاد.
بمجرّد انخراط قلبك في هذه الحال (حين يسع قلبك الله)، لن ترى في الوجود موجودا غير مُوجِده، وسيصير القصد من كلّ فعلك ابتغاء وجهه جلّ في علاه. بعدها لن تُلقيَ بالا لأيّ اتّهام أو شكوى أو افتراء أو سبّ أو ظلم من الخَلق. وستتمتّع بتقدير صائب وحكم متسامح إزاء كلّ تلك الأمور.
ثمّ ما عليك إلّا أن تتأمّل وتقوم بحسبة بسيطة: هل أنا الظالم أم أنا المظلوم؟ فإن تبيّن أنّك الظالم، اِعتذر وأعِد الحقوق لأصحابها. أمّا إن كنت المظلوم، فأشفق على الظالم، حيث عدم عفوك عنه وعدم طلبك منه إعادة حقّك لك سيُعدمه حسناته. المُفلس من ظلم الخَلق في الدنيا، وأتى يوم القيامة يعوّض بحسناته عن ظلمه، فإن فنيت حسناته طُرح في النار ليعذَّب بخطاياهم. للمخلص التّقيّ رجاء مستمرّ في نيل هذا النوع من النعم: نعمة ألّا يَظلم أحدا في هذه الدنيا. إذا ظُلمت، اُعفُ وتفهّم، بل حتّى أشفق. ما أنعم عليك به مولاك أعظم ممّا أُنعم به عليهم. لذا أنفق حُبًّا أكثر تجاه خلق الله وحُبًّا أعظم تجاه مرشدك، بل أحبّه فوق حبّك لنفسك (إذ تضحّي بها من أجله إن استدعى الأمر ذلك)، وأنفق عمرك وأموالك في سبيل الله.
جاء في الأثر أن النبيّ ﷺ قال (بما مفاده): “من كنتُ أَحبّ إليه من والده وولده وزوجه والناس أجمعين، كان معي في الجنّة”. (نصّ الحديث مترجم وليس أصليا).
إذا أَحبّ المريد مرشده عظيم الحبّ، كان له ذلك ميثاقا برفقة الرسول ﷺ والنبيّين والأولياء. إذا أُكرِم المريد بهذه الحال (حبّ مرشده له وإدراكه لحقيقة رُفقتِه للأنبياء في الجنّة) ترسّخ اعتقاده ترسُّخًا مُحكما بأنّ كلًّا من سعادة الآخرة وتعاستها متعلّق بمدى حرصه على سعادة مرشده ومدى خوفه على غضبه، وتأكّدَ من أنّ حبّ مرشده له يُترجِم حبّ جميع أسلافه من المرشدين، وطرْده له (توقُّف قلب المرشد عن رعايته والعناية به) يعادل الطرد من قِبل جميع أسلافه السابقين وصولا إلى النبيّ ﷺ.
إيمان المريد بمرشده واعتباره الشيخ الفعليّ لذلك الزمان واعتقاده الجازم بأنّه أعظم المرشدين حتّى ذلك الحين ما هو إلّا مرآة تعكس رضا الله ورسولِه ﷺ عنه. رضا المرشد (الخليفة) انعكاس لرضا النبيّ ﷺ، ورضا النبيّ ﷺ هو رضا الله. قال ﷺ: “رضا الله في رضا الوالدين”. وبالتالي، فإن تمكّن المريد من نيل رضا والديه الأربعة – الوالدان الحقيقيان، والدا زوجته، شيخه وزوجة شيخه، معلّموه وزوجاتهم – نال رضا الله تعالى ورسوله الكريم ﷺ.
ومتّفَق حسب إجماع الميراث على ضرورة برّ الوالدين وطاعتهما واحترامهما ومحبّتهما والاجتهاد في محاولة ردّ جزء بسيط من جميلهما. ويقتضي الإجماع أن تُمارَس الشعائر الدينية على أساس إيلاء الأولوية لروح الإنسانية، وليس الاهتمام فقط بأحكام الشريعة، حتّى يتمّ تجنّب عقوق الوالدين وإيذائهما، أو إيذاء الأقارب وقطْع الرحم، أو القيام بما لا يوافق مبادئ الإنسانية، وبهذا يتجنّب المرء خطر ردّ أعماله وعدم قبولها.
الخليفة الحقيقي من له القدرة على الاطّلاع على أفكار المريدين وأقوالهم وأفعالهم وحتّى سلوكياتهم الخفيّة – وهو ما شاء الله له أن يعرفه – فضلا عن معرفة أحد أسرار القرآن الكريم الخمسة أو بعضها أو جميعها. يقول محيي الدين في كتابه بما مفاده: “إن كان فعلا هو ذلك الرجل (المرشد الحقيقي)، لَعَلِم ما في صدور جميع مريديه، أينما كانوا وأيّا كان عددهم (سبعون أو سبعة آلاف أو حتّى سبعون ألفًا) ما دامت تلك مشيئة الله. ومباح أن يتظاهر المرشد بعدم المعرفة أو يتعمّد قول الخطأ ليوهم من حوله بعدم معرفته. أمّا إن لم تكن له دراية بالأمر حقًّا، فتأكّدْ أنّه ليس المرشد الحقيقي”.
على جميع مريدي الجهرية أن يَعُوا فِراسة المرشد، أي قدرته على معرفة خواطر أنفسهم وأحاديثها وأحوالهم وأفعالهم سواء أكانوا في حضرته أم غياب. لذا، لا تعتقد بعدم درايته أو بقدرتك على خداعه، فقد يتعمّد لسبب ما إخفاء معرفته. لن يكشف المرشد عن قدرته على معرفة الغيبيات ومخبوءات المستقبل واستطاعته تمييز الحقيقة من الكذب والعلم بمآلات الأمور ومكنونات العقول، إلّا إذا أراد أن يُظهر قدرة الله أو يُظهر حقيقة هويّته الموروثة.
ولأنّ المرشد مرآة، فإنّه يكون على اتّصال لا يتعدّى أن يكون ظاهريا مع أولئك الذين يتّبعونه اتّباعا ظاهريًا. لا تظنّ – أيّها المريد الزائف المعنِيّ بالظاهر فقط – أنّه بوسعك خداع شيخك بمحاولة إرضائه بكلامك المنمّق. كَسْبُكَ أنْ حظيتَ بظاهر لطفه وعطفه فحسب، وحرمَتك نيّتك المزيّفة إرشادَه الحقيقي، لكنّك انخدعت بما تراه عيناك من سطحية المشهد. وعلى عكس ذلك، عليك أن تَأمل في اتّصال باطني (هدي القلب) لا ظاهري معه، حتّى تفوز فوزا عظيما. وهكذا وجب عليك معاملة شيخك بقلب صادق وإخلاص لا منتهٍ حتّى يتأتّى لك – بفضل إرشاده لقلبك ورعايته لك – نيل واسع عطاء ربّك.
اهتمام الهادي بحياتك وحالك هو اهتمام بالظاهر، أمّا اهتمامه بإيمانك فهو عين النعمة، حيث أن توجيهه لك ومساعدته إيّاك على الاستقامة على طريق الإسلام القويم هو النعمة الحقّة التي لم ترها عين ولم تسمعْ بها أذن ولم تخطر على قلب بشر. واعلم – أيّها المريد الحقيقي – أن صِدق قلبك وصِرْف إخلاصك يُنوِّلانك أسرارا ومقامات لا سبيل أبدا لأهل الظاهر باختبارها.
كلّ من كان أمله تبجيلُ الشيخ له فهو من “أهل الظاهر”، لأنّ تبجيل الشيخ للمريد غالبا ما يكون السمّ الذي يؤدّي بالنّفْس للتعاظم. من جهة أخرى، نجد أهل الصدق والإخلاص الذين لا يبتغون بجُملة أفعالهم سمعة ولا ثروة، بل وجه الله لا غير، فيكون تبجيل الشيخ تحفيزا لهم وعاجل البشرى بحسن الثواب.
وباعتبارك مريدا في طور التربية، عليك أن تتذلّل لشيخك وتسمح له بإخضاعك رياضةً للنّفْس، واختبارك باستمرار بمهامّ مختلفة تحت ظروف متباينة وحسب ترتيبات متنوّعة. فليشجّعك عِوض أن يمدحك، وليأمرك بصرامة نابعة عن حبّ، وليوجّهك دون أن يغضب عليك إن أخطأت، وليُبقيك حيّا في قلبه ولا يتخلَّ عنك أبدًا.
ونذكر هنا قصّة شيخٍ أمَر أحد مريديه بتنظيف غرفة وفرشها وحرق البخور فيها وإغلاقها. بعد ظهيرة ذلك اليوم، جاءت سيّدة شابّة ترتدي ملابس منمّقة، فدخل الشيخ معها إلى الغرفة وأمر مريده بقفل الباب عليهما ثمّ فتْحه بعد ساعة. بعد مغادرة السيّدة الغرفة، ذهب المريد إلى شيخه وقال له: “رغبتي في إرشادك لي قائمة كما عهِدتَها لم تتغيّر، أسألك سيّدي أن تأخذ بيدي إلى الله. اعتقادي في كلّ فعل أنت فاعله أنّه لا يخلو من سرّ، وما شهدتُه اليوم ما زادني إلّا يقينا بأنّك قطعا أنت مرشدي”. أقرّ الشيخ بإخلاصه وقال له: “اِلحق بها واسألها عن طبيعة علاقتي بها”. فجاء الردّ كالتالي: “أنا أخته، جئتُ أحادثه في أمر عاجل على انفراد”.
تُميِّز هذه القصّة بين نوعين من الناس:
صاحب الطريقة – المؤمن بشيخه إيمانا صادقا لا شكّ فيه ولا سوء ظنّ – الذي يلمس في موقف كذاك محبّة شيخه له وسعيه لإعانته على تحقيق إيمانه.
والفقير (فقير الحسنات)، الذي بمجرّد أن يشوب قلبه أدنى اعتراض على كلام شيخه أو فعله، أو تأخذ أفكاره في التباين مع أفكار مولاه أو يسوء ظنّه فيه، أو تظهر في ذهنه خواطر معيقة وما نحو ذلك، وجب عليه أن يتوب فورا إلى ربّه طالبا عفوه ومغفرته، لأنّ سوء الظنّ والاعتراض وما إلى ذلك من نقائص الآداب تجاه الصالحين وأولي الدرجات العلى سمّ قاتل يفتك بإيمان العبد ويَفنيه.
صفوة المريدين – أهل البصيرة والشهود – اختَبروا مواقف كهذه بشكل شخصي، فأثبتوا بدقّة لا تشوبها شائبة أنّ “كلّ من عاش حياته يعادي شيخا، بمخالفة أقواله (كادّعاء كذب الشيخ) أو أوامره أو أفعاله (كعدم اتّباع ما تعلّمه من الشيخ) مات ميتة سوء. وكثير من المعادين والمتمرّدين خُتم لهم بموت على الرّدّة”. قال رسول الله ﷺ أنّ الله تعالى قال: «من عادى لي وليّا فقد آذنته بالحرب». وقصّة موسى والخضر عليهما السلام في سورة الكهف خير برهان لمن ينكر صحّة هذا الأمر.
بلور الميراث النقشبندي قاعدة يَثبُت عليها – طوال الحياة – كلّ مريد صادق مخلص حقيقي من أهل الجهرية. تقول القاعدة: “لربّما يرتكب المريد خطأً ما أو يسيء الظنّ أو يخالجه اعتراض، لكن بمجرّد انتباهه لذلك، تبكي عيناه رجاءً في رحمة ربّه، وقلبه مستغفر تائِب ونادم مستحيٍ. بعد ذلك يغدو شديد الحذر من أن يُعيد الكرّة، دائم الاستغفار والاستحياء والندم على ما اقترف من خطايا”.
قال رسول الله ﷺ: “لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيرا”. لذا، حافِظ على الحالة الذهنية الصحيحة. بمعنى آخر، كن صادقًا ومخلصًا في اتّباعك للشيخ واركن إلى إرشاده للتعامل مع مختلف مؤتَيات الحياة لئلّا تضلّ درب الطريقة. أحسن الظنّ على الدوام، ولا تجعل من ذلك المُعتمَد والأساس، فمَعالي الأمور لا تُنال بمجرّد الظنون بل بالأفعال والأعمال. حسب الميراث، يُعتبر كلٌّ من طيب الطعام وحُسن الكسوة مباحا لأهل الطريقة، غير أنّها تغدو أمورا مكروهة في بعض الأحيان، والحكم فيها يُردّ إلى طبيعة النيّة وراءها.
أَيمارس المريد إيمانه استنادا على رأي شخصي أم استنادا على المنطِق؟ هل بِناءً على حكمه الذاتي أم بناءً على حكم الكتب؟ فمثلا، هل المكروه بالنسبة لك هو ما لا تحبّه أم ما هو محدّد في الإسلام على أنّه مكروه؟ فإن وُجد أنّ هناك أمرا لا يروقك وكان حكمه حسنا في الإسلام، تخلَّ من فورك عن حكمك واتّبع أحكام الكتب. واعلم أنّ من يمارس إيمانه اعتمادا على عقله وفكره يخاطر بالانحراف بلا وعي منه عن سواء السبيل، فلا تجعل ممارستك للدّين مثل استقاء الماء بسلّة من الخيزران. العقل البشري ليس دومًا على صواب. صحيح أن التفكير العقلاني للإنسان يقترب تدريجيًا من الحقيقة المطلقة، لكنّه أبدا لن يحوزها كاملة، فتفاوُت المستوى المعرفي للناس قد يؤدّي إلى اختلاف في إدراكهم، بل وقد يوقِعهم في الخطأ أحيانا.
ومثال ذلك رجل ريفي لم يسبق له في حياته أن ذهب إلى المدينة أو رأى مصعدًا أو طائرة. إن قام أحدهم بإخبار هذا الرجل أنّه بإمكان الناس في مكان آخر أن يطيروا في السماء وأن يصعدوا وينزلوا دون حتّى أن يتحرّكوا، فحتما سيتنّكر الريفي لذلك ويكون ردّه: “كيف يمكن لأمر كهذا أن يحدث؟”. فينزلق بدون وعي منه إلى الحكم الخاطئ.
والشيء نفسه ينطبق على المريد إن هو مارس الإسلام بناءً على مَنطقه وقدراته التصوّرية الذاتيّة وتفكيره الخاصّ عوض الاستناد على القرآن والحديث والكتب. سيحيد لا محالة بجهل منه عن الطريق المستقيم إلى طريق البدعة، ويوم الحساب يستحيل كلّ عمله هباء منثورا.
جاء في الأثر أنّ رجلا سأل النبيّ ﷺ فقال: أرَأيتَ إذا أقمتُ الفرض وحرّمتُ الحرام، أأَدخل الجنّة؟ قال ﷺ: “نعم، لكن لا تكن تصرّفاتك اتّباعا لهواك أو تقليدا لتصرّفات مرشدك”. (نصّ الحديث مترجم وليس أصليا).
عندما يسلك الشخص المعتدّ بنفسه طريقه الخاصّ، ويقلّد مرشده في أفعاله وسلوكياته وما إلى ذلك بدون إذن منه، فإنّه من المحتمل أن يصيب في بعض الأحيان لكنّه سيخطئ في أغلبها، نظرا لأنّه يقدّر الأمور بعقله وفكره فقط وليس بحكم الكتب.
يتحقّق إيمان المرء عندما يوافق مفهومه للحلال والحرام ما شرّعه الله من حلال وحرام. في ظلّ هذا الميراث، مارِس إيمانك بحذر وجدّية وفقا للمنهج النبويّ بدون زيادة أو نقصان أو تغيير. لا تكن متجرّئا لأن التجرّؤ والاعتداد بالنفس يجعلانِك تسير دوما في طريقك الخاصّ، ضالّا ومُضِلّا لمن حولك، معتقدا بأنّك على الدرب الصحيح، إلى أن تجد نفسك انزلقت وانتهيت إلى دروب البدعة.
يُكشف للمريد عن السرّ ويُلهَمه عندما يُرزَق فضلَ الله العظيم وينسى نفسه في محبّة خالقه. لا يجوز للمريد أن يقلّد سلوكيات شيخه ما لم يُأذن له بذلك، حتّى وإن كانت نيّته تحصيل الصالح العامّ، إذ بمجرّد أن يقوم المريد بهذا التقليد الأعمى لأفعال شيخه – المُنطوية في واقع الأمر على أسرار خفيّة – سينحرف مباشرة إلى مسار البدعة ويتسبّب في تسميم إيمانه وقتل روحه. والدليل على ذلك قول النبيّ ﷺ (بما مفاده): “صنفان سيُلقى بهما في النار: عالم فاجر وعابد جاهل”. (نصّ الحديث مترجم وليس أصليا).
أيّ منع أو لوم تشهده من شيخك هو رحمة منه بك على وجه الحقيقة، ومن لا يرضَ بذلك من شيخه تسوء حالته أكثر ويعتدّ بنفسه أكثر ويَضلّ أكثر وأكثر عن الطريق السويّ. اِمنع – أيّها المريد – شعور الاعتداد بالنفس من التكوّن في قلبك، واعمل جاهدا على التخلّص منه فور ظهور أوّل بوادره، لئلّا يصرفك عن سواء السبيل. ولا تنس أن التزامك بالقرآن والحديث والكتب، تحت مظلّة إرشاد شيخك، هو ما سينجيك من السؤال يوم الحساب.
لكي يُغفر ذنبك، سارع إلى الاستغفار والتوبة لحظة تنبّهك لاقترافه. وإذا سألك شيخك، أجبه بصدق حتّى لو تعلّق الأمر بشأن خاصّ أو ذنب تخجل منه أو أمر لا يُباح به. ممارسة الطريقة درب طويل، عقباته الأنانية وكلّ فِكر يُلهي عن إقامة الدّين، إن أنت أزلت عقباته قَطَعتَه بيسر، وفُتِّحت لك أبواب الرحمة، وهُديت في الطريقة ورضي الله عنك.
يُعتبر ضروريا – في هذا الميراث – اِلتجاء المريد إلى مرشده حالما تهجُم عليه أي خواطر مباغتة أو واردات أو صراعات داخلية أو أحوال غير طبيعية، وإخباره بكلّ صدق بما يختبره باطنيا والسماح له بتحليل الوضع واستنباط الحُكم المناسب، عوض التصرّف من تلقاء النفس وإصدار الأحكام بناءً على تقدير ذاتي.
حاصل الأمر، تبنّيك لردّة الفعل هذه حينما يُلقى في خلدك أمر من تلك الأمور، إضافة إلى سعيك الدؤوب في طلب رضا الله وخوفك الشديد من غضبه، وخوفك من الانزلاق إلى دروب البدعة، كلّها ثوابت تحمي بها إيمانك، وبالتالي تكون قد لعبت دورا في حماية دين الإسلام. ثمّ احذر كلّ الحذر، أيّها المريد، من أن تخفي مثل هذه الأمور عن شيخك، حيث أنّ ذلك سيوقعك في فئة “الخائن”.
اِمتثِل لما يُرضي الله وابغُض ما يُغضب الله، وابق في منأى عن البدع والغفلة، ولا تدَعْ – مَن تُخالفُ أخلاقُه ما سبق ذكره من آداب الميراث – أن يشوّش عليك، وهم ثلاثة أصناف: المضِلّ والمبتدِع والجاهل المتجرّئ المعتدّ بنفسه. هم أناس يسيرون دروبهم الخاصّة، يخطئون ويدْعون من حولهم للخطأ، فيَضِلّون ويُضِلّون. اِبتعد عن هؤلاء بقدر منآك عن حيوان ضارّ، وابتعد أيضا عن كلّ أنواع الآراء والأفكار الأيديولوجية غير الإسلامية. اِحترس من أن تُشوَّش أفكارك لئلّا ينطفئ نور الإيمان في قلبك. وإيّاك ثم إيّاك أن تفقد حذرك أو أن تغفل، فيخفت نور إيمانك وينطفئ كما تنطفئ النار بالماء، وتسيطر الشياطين على قلبك ويشوِّش عليك هوى نفسك سداد التقدير.
الإيمان الحقّ – حسب الميراث – هو تحليل ما أحلّ الله وتحريم ما حرّم الله، والحرص على إتيان المستحبّ عوض المباح، والابتعاد عن الشبهات جميعها والتمسّك بالحلال طوال الحياة. لقمة واحدة من طعام حرام تسلب عبادة أربعين يوما. ويُقصد هنا بالطعام الحرام كلّ طعام كان مسروقا أو مسلوبا بإكراه، أو مأخوذا بغير إذن، أو مكتسَبا من ربا أو حرام.
من المستحبّ تناول طعام أعدّه عبد تقيّ بعد أن أدّى الوضوء، والأوْلى تناول ذلك المُعَدّ من طرف عبد ذي قلب دائم الحضور مع الله. ثمّ احذر من تبذير الطعام، لقوله تعالى: {إنّ المبذّرين كانوا إخوان الشياطين} (الإسراء، 27). ولا تكن جشِعا في طلب لذّة الأكل والشرب، بل لِيكن إعدادك وتناولك للطعام مقرونين دائما بحضور قلبك مع الله.
يُعتقد – حسب الميراث – أنّ الغضب والضحك المبالَغ فيه يُطفئان النور المُتأتّي من ذكر الله، وبناءً عليه يتأذّى إيمان العبد. يتأذّى الإيمان ويضيع بسبب الأنانية والأنا وسوء النيّات، والسعي الجشِع وراء المادّيات والملذّات وكلّ ما كانت غايته لا ربّانية. لذا، اُترك وامتنع عن كلّ ما سيخلق لك اضطرابا ويُتلِف إيمانك، رجاةَ أن يكتمل إيمانك. قدّر كلّ نفَس، ولا تضيّع وقتك وعمرك. ألَا إنّ طوب العمر الوقت، ألَا إنّ إتلاف الوقت هدم للعمر.
اِستثمر عمرك فيما يُكسبك خير حصاد الآخرة، وكن ذاكرا لله متفكّرا في آياته. ولْتَتحقّق فيك عبارة: “مُتْ قبل أن تموت، لتحيا قبل أن تُبعَث”. علِّق قلبك بالآخرة وإن كان جسدك لا يزال يعيش في الدنيا. ولّ عقلك الحُكم عليك، واستثمر قوّتك الجسمانية في الاستعداد لآخرتك، وانظر إلى نفسك،كَمن التحق ببرزخه، كَمن ترك وطنه، كَعابر سبيل لا أكثر. ثُمّ ٱدع الله أن يهدي من شاء إلى سواء السبيل، وٱسْعَ لأن تكون سببا في تلك الهداية.
إذا اعتبرتَ نفسك ميّتا حقّا، تماما كمن يرقد تحت الأرض، فلن يخالج قلبك توق زائد لنِعَم الدنيا الزائلة. وعليه، وتحت ظلّ هذا الميراث، وعى الناس بأنّ الحياة الدنيا – القصيرة والمؤقّتة بطبعها – ليست بشيء على الإطلاق سوى كونها نُزُلا وبحرَ بؤسٍ وحقلَ زرعٍ. وحيث أنّنا لن نقيم في نُزُل على الدوام، ولن نستقرّ في بحر بؤس إلى الأبد، فلنسارع في غرسٍ عاجلٍ نحوز به الخير الآجل.
شكّلت القواعد المذكورة آنفا نظامَ آدابٍ قويّ تتوارثه الأجيال وتلتزم به، بوعي منها أو بغير وعي، مهما اختلفت مستويات أفرادها العلمية والثقافية، ممّا جعل من أهل الجهرية فرقة مستقرّة تتمسّك بالتقاليد وتحافظ عليها وتحميها من أن يعتريها أدنى تغيير.