أقطاب التصوف “المداني والحلاّج”.. بقلم الدكتور بدري المداني_تونس

د. بدري المداني _تونس

 

إذا ذكر اسم الحلاّج عامة وعند الصوفيّة كان المجحف يكفّره والمدافع يحمّل الدسّاسين والمتقوّلين والمنصف يؤوّل تراثه تحت خمار العشق والفناء ..هو أبو عبد الله حسين بن منصور الحلاّج 244 ه / 309 ه شاعر عراقي عباسي، يُعدّ من رواد أعلام التصوّف في العالم العربي والإسلامي.

اكتفى بعضهم بتكفيره بالاعتماد على ما قيل على لسانهِ من أقوال أو أشعار، بينما سعى بعضهم إلى تبرئته بالزعم بأنّ ما قيل على لسانه لا أساس له من الصحة وأنه كلام مدسوس عليه، أمّا أتباعه فإنّهم يقدّسون أقواله ويؤكدون نسبتها إليه، ولكنهم يقولون إن لها معاني باطنة غير المعاني الظاهرة، وأن هذه المعاني لا يفهمها سواهم، بينما جنح المستشرقون إلى تفسيرات أخرى وجعلوا منه بطلًا ثوريًا شبيهًا بأساطير الغربيّين، وعند الشيعة من المذمومين الذين ادعوا النيابة الشبابية.

وعند ابن تيمية – ت 728 ه – كافر يقتل “مَنِ اعْتَقَدَ مَا يَعْتَقِدُهُ الْحَلاجُ مِنَ الْمَقَالاتِ الَّتِي قُتِلَ الْحَلاجُ عَلَيْهَا فَهُوَ كَافِرٌ مُرْتَدٌّ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ ; فَإِنَّ الْمُسْلِمِينَ إنَّمَا قَتَلُوهُ عَلَى الْحُلُولِ وَالاتِّحَادِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنْ مَقَالاتِ أَهْلِ الزَّنْدَقَةِ وَالإِلْحَادِ كَقَوْلِهِ: أنا الله، وَقَوْلِهِ : إلَهٌ فِي السَّمَاءِ وَإِلَهٌ فِي الأَرْضِ.. فَهُوَ كَافِرٌ مُبَاحُ الدَّمِ، “.

وقال عنه الشيخ عبد القادر الجيلاني-ت 561 ه- حين سُئل عن الحلاج قال: “عثر الحلاج ولم يكن في زمانه من يأخذ بيده، ولو أدركته لأخذت بيده.”

وقال عنهُ الشيخ أبو الحسن الشاذلي -656 ه -” أكره من العلماء تكفير الحلاّج، ومن فهم مقاصده فهم مقصدي”، ويعدّ الحلاّج مؤسس التصوّف المقام على الحبّ الإلهي ففي التصوّف الإسلامي يدين للحلاج دينًا كبيرًا، فقد ترك في المحبّة وما يتصل بها، ويدور حولها ثروةً خصبةً حيّةً غدت مادة الصوفيّة في هذا المنهج، ودستورهم المتلألئ في هذا الأفق…بل يرى المستشرق “ماسنيون-ت 1962 م – ” أنّ الحلَّاج هو الشخصية الكاملة التي تمثل أصدق تمثيلٍ أسمى ما وصل إليه الحبّ الإلهي في التصوّف الإسلامي.

ويقول المستشرق نيكلسون –ت 1945 م – ” لقد نمت على يد الحلَّاج أكبر حركة تطورٍ في تاريخ التصوّف، فهو المبتكر الأوّل للمصطلحات الصوفية، التي وسعت آفاق التصوّف، وهو الذي جعل من الحب الإلهي فلسفةً كاملةً، ومنهجًا متماسكًا، وأن كلّ من جاء بعده إنما كان ينسج ويقلّد”.

وقد عبد الحلَّاج ربّه سبحانه بهذا الحبّ، عبادةً حارةً مضيئةً أحاطت بحياته، وبثت فيها مذاقاتٍ وإلهاماتٍ، وعرضت على عين قلبه صورًا من التجلّيات والمشاهدات، جعلته في شوقه ووجده يحسّ إحساسًا روحيًّا بأنّه مع من يحب، بل يحس إحساسًا لا شعوريًّا في حيرته وذهوله، أن بشريته قد احترقت وفنيت في هذا المحبوب الأسمى.

لي حبيبٌ حبه وسط الحشا *** لو يشا يمشي على قلبي مشا… روحه روحي وروحي روحه *** إن يشا شئت وإن شئت يشا

وبالنسبة للشيخ العلاّمة محمّد المداني التونسي -1888 م/1959 م- فلم يخض كثيرا في موضوع الحلاّج لأنّ الظرفية التاريخية التي نشأ فيها –التخلّف والجهل والاستعمار والتركيز على تدريس العلوم الشرعية وقوة مشايخ جامع الزيتونة، الفكر الإصلاحي محمد عبده وجمال الدين الأفغاني والثعالبي والحداد
و ابن عاشور والخضر حسين وغيرهم.

جعلت منه يركّز على نشر تصوّف شعبي عملي إجتماعي إصلاحي بعيد عن التصوّف الفلسفي النخبوي ومع هذا كانت إشاراته عامة منصفة في قضية الحلول والإتحاد ويجد لأصحابها على غرار الحلاج وابن عربي الأعذار، فقد طرح عليه أحدهم سؤال :” إنِّي قرأت في كلامِ كثيرٍ من الصوفية عباراتٍ ظاهرُهَا الحلول والإتِّحَاد فهل تلكَ هي عَقيدَتُهم ؟
فأجاب الشيخ محمد المداني :” عقيدة الصوفية هي العقيدة السنِّيةُ الأشعرية. ومَا تَفَوَّهوا به في شَطَحَاتهم فأمرٌ يَقتضيه الإستغراقُ في بحَار التوحيد والغيبة عن هاته الخيالات الكونية. وكُلُّهَا تَرجع بالتأويل إلى النُّصوص الشرعيّة ولذلك قالَ الإمامُ المَقَّري:
1 وَمُـــوهِمُ المَحْـــذُورِ مِــــنْ كَـــــــــــــلاَمِ **** قـَـــــــومٍ مِنَ الصُّـــــوفيـَــة الأَعـْـــــــــلاَمِ
2 جـَـــرْيًا عَلَى عُـــرفِهـِــم المَـــخْصُـــــوص **** يَــــرجِـــــعُ بالتـــــأويـــــلِ للنُّـــصُــــــوصِ.

ويقول في موضع آخر يدافع عن الحلاّج وغيره بالإشارة تجنّبا للصدام :””لَذلكَ تَرَاهم (الصوفية) يُصرِّحُونَ في شطحاتهم ومُوشَّحَاتهم بما اقتضاه الحال والوجدان ولاَحَظه الجَنَانُ والعِيَان ولكنْ لَم يفصح عنه اللّسانُ ولَم يشرحه القلم أو يُعربْ عَنه البَنَان، فَقَام منازعًا لهم أهلُ العقول القاصرة والأذواق الخاسرة: فَمِنْ قائلٍ إنّهم يَنهَقون بالاتِّحاد وَمنهُم مَن يَقُول بالحُلول ومِنهم مَن رَمَاهُم بالإعتزال… وَالحَال أَنَّهم لا خبرَ لَهُم بالقَول ولاَ بِمَن قَالَ، تَحَلَّوْا بِحلّة التوحيد وتجمَّلوا بحُلَى التفريد فهي حقائق قلوبٍ ورقائق أفهام، تصل إليها الأرواح بعد مزيد المجاهدة ولا ينبغي أن تؤخذ على ظواهرها، بل تُؤَوَّل إذا ما خالفت النصوصَ الشرعية القاطعة.”

وهنا نؤكّد على أنَّ الشيخ المداني تجنّب بشكلٍ تامٍ الخوض في النزعات الباطنية، ولم يَذكر أحدًا من أصحابها إلاّ نادرا فورد إسم الحلاّج في مؤلفاته مرّات نادرة وكذلك اسم الشيخ الأكبر محي الدين بن عربي -1240 م – إلاّ مرَّةً واحدة، حين استشهد بِيَتيْن من الشعر منسوبَيْن إليه، ”
ويقول في بيان مفهوم علم التصوّف وصعوبة فهم مصطلحاته ذات المعاني الخفيّة “التصّوف علم أذواق لاعلم أوراق، يؤخذ من القلوب لا من الكتب، يجعله الله في قلب من يشاء من عباده، ولذلك ترى الصوفية يصدر منهم الكلام القاهر الذي له صولة تتحيّر فيها ألباب الفحول.لا تُدْرَك إلاّ بالإيمان والتّسليم لأنّها من وراء العقول جاءت من حضرة العليم الحكيم.ولذلك قال الألوسي-ت 1270 ه – في تفسيره: فالإنصاف كلّ الإنصاف التّسليم للسّادة الصّوفية الذين هم مركز للدائرة المحمّدية فافهم عليه.واتّهم ذهنك السقيم فيما لا يصل -لكثرة العوائق والعلائق- إليه .”

كما أبانَ الشيخ المداني في كتابه “برهان الذاكرين” أنَّ هذه المُمارسات، من أوراد وصُحبةٍ واجتماعاتٍ ومدائح وغيرها لا تخرجُ عن أصول الشرع. وما يَخترقها، حينَ يغلبُ الوجدُ، من شَطَحاتٍ تَتعارض ظواهرها مع النصوص فَيُرَدُّ بِضربٍ من التأوُّل إلى ما أجمعَت عليه المَصادر الشرعية. كما احتجَّ بقوله: لا يمكن أنَّ يُزَجَّ بأكابر الأمّة الإسلامية وعلمائها مثل الجُنَيْد والقُشَيْري والغَزالي في مهاوي التبديع والتكفير لِمجرد عباراتٍ صرَّحوا بها وهم في حال من الانعتاق الروحي.”
وهذا لا يعني أنّ مذهب العشق الإلهي الذي أسسّه الحلاّج كان غائبا عن فكر الشيخ المداني بل كان مبثوثا فيما كتبه رحمه الله من ذلك قوله ” “الذي يَعْشَقُ الحَضرَةَ الإلهية، ويَتَقَوَّى حُبُّه فيها، فَيَعفُّ، ويَتركُ مَا نَهاه الله عنهُ، ويَتَقَرَّب إلى الله بما فَرَضَ عليه، ثم يتقرّب إليه بالنوافل حتّى يصير مَحبوباً عند الله، فَيَكون له الحقُّ سمعًا وبصرًا ويدًا ورِجْلاً، ويَكون مُجابَ الدعوة، ويكون كاتماً ما يفيض عليه من العلوم الأحديّة ولا يبوح بسره الذي يَتَجَلَّى الله به عَلَيْه، فإذا مات بعدَ ذلكَ، كان شهيداً، وكانَ مَغفوراً له، يَتَمَتَّع بدخول دار النعيم، وبالنظر إلى وَجه الله الكَريم”.

يقول الشّيخ محمد المداني، رَحمه الله في موضع آخر “يَلزَم المريدَ أن يَكونَ شديدَ المحبّة لجانب الحقّ، تَبارَكَ وتَعالى. واعْلَمْ أنَّ المَحبّةَ دينُ أهلِ الله ومَذهبُهم، والمَحبّة لله ثلاثة أقسامٍ: مَحبّة العَوام وهي في مُقابَلَة إحسان الله إلَيهم و وُفورِ نِعَمِهِ عَلَيهم. ومَحبّة الخَواص وهي خالصةٌ عَن الشوائب، وإنّما هي لاستحقاق ذاته أن يكون مَحبوبًا، ومَحبّة خاصّةِ الخاصَّة وهيَ تَقتضي انمِحاقَ المُحبِّ في ذات مَحبوبه”، وفيه (أي الحبّ الإلهي) نَظم عديد القصائد ولعلّ من ألطفها قصيد:بُح بالغرام فما عليك من حرج ***وشنِّف السمعَ واشف ألمَ المهج .

 

Facebook
Twitter
Telegram
WhatsApp

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *