«كان العالم أموميًا حيث كانت الآلهة إناثًا، ثم انقلبت الموازين لصالح الرجل واكتسب على إثر معارك عديدة أفضلية ومركزية، وخلق هذا التمركز حول الذات الذكورية وصارت المرأة بمكانة دونية عن الرجل بحسب ما تقول الميثولوجيا، ولم تتوقف هذه الأفضلية في بعدها الاجتماعي وتنظيمه فحسب، بل اتصل الأمر لتنطبع هذه التراتبية في بناء ثقافي وتشكّل نسقًا صلبًا، تخضع فيه المقولات الدينية وحتى الطبيعية كالاختلافات البيولوجية والفيزيولوجية إلى التأكيد على سلطة الرجل وتبرير تفوقه الإنساني حتى يومنا هذا».
هذه هي السردية التي تتبناها ما بعد البنيوية والحركة النسوية في حربها ضد السلطة الأبوية بكل أشكالها بهدف تفكيكها، بحيث «يتفككون جميعهم ويذوبون في كيان سديمي واحد بلا معالم ولا قسمات»[1]. ولقد وجدت الحركة النسوية في التصوف ما يشكل صياغة أنثوية للوجود، وهذا عبر إزاحة الثنائيات (الطبيعة والروح) والتنظير للواحدية أو بحسب المصطلح الصوفي «وحدة الوجود».
لذا، يلقى ابن عربي اهتمامًا كبيرًا، وخاصة عند النسوية العربية، حيث كانت مصنفاته مادة ثرية لخدمة توجهاتها، ولقد وجدت النسوية في التصوف بشكل عام حقلًا واسعًا تثبت نفسها فيه بل وتفوقها كذلك على الرجل وخاصة في باب الكرامات، كما استطاعت الخروج عن الدور الاجتماعي الذي قيدت فيه وصنعت لنفسها دورها الخاص.
التصوف والمؤسسة الفقهية
التصوف في أصله هو البعد التزكوي للدين الحنيف، وتحمل عبر تشكله التاريخي دلالات كثيفة وأصبح علمًا له أدواته ومنهجه الخاص، وقد شكل التصوف ثورة ضد النمط الفقهي السائد، واتخذ مصدرًا ابستمولوجيًا خاصًا سمي بالعرفان «يستند إلى القلب كمحور للكشف والمشاهدة التلقائية من غير نظر ولا استدلال»[2]، حتى عرفوا بقولهم:
«حدثني قلبي عن ربي»، ويصل الصوفي إلى العلم عن طريق المجاهدات، فيتحصل له علم لدني، ويستدلون على قولهم هذا بقوله تعالى: «واتقوا الله ويعلمكم الله». وكان البسطامي يلمز الفقهاء إذ يقول: «أخذوا علمهم ميتًا عن ميت، وأخذنا علمنا عن الحي الذي لا يموت».
ويرى المتصوفة أن الفقهاء ينظرون إلى ظاهر الشريعة، في حين ينظر المتصوفة إلى حقيقتها وباطنها، وعُد التصوف مسرحًا واسعًا لكل من ضاق بالتقييد الفقهي وجموده، وقد وجدت النساء في هذا النمط التديني مجالًا رحبًا لتثبت ذاتها وتتحرر من الدور التقليدي الذي فرض عليها. فقد اتسم الفقه في العصر الوسيط بإعطاء صورة للمرأة متراجعة عن الصورة والمكانة التي جاء بها الإسلام، فعُدت المرأة ناقصة عقل ودين، وعمل بعض الفقهاء على إعطاء شرعية دينية لدونية المرأة بالنسبة للرجل عبر تأويلات مجحفة وضيقة للنص القرآني.
وعلى إثر ذلك «اختارت المرأة سبيلًا آخر وهو التواصل المباشر مع الله من خلال التجربة الفردية الخالصة والبعيدة عن حراس التقليد الإسلامي الرسمي والمؤسسات القائمة على الشأن الديني، التي يمثلها التصوف»[3].
المرأة والرجل في التصور الصوفي
جاء رجال عند رابعة العدوية يذكرون أمامها مناقب الرجال وحصر النبوة فيهم ويريدون بذلك امتحانها، فأقرت رابعة بما ذهبوا إليه ثم قالت: «كل هذا صحيح، ولكن ادعاء الألوهية «وأنا ربكم الأعلى» لم يصدر عن امرأة قط، ولم تكن هناك امرأة مخنثة قط، وقد بدا هذا بالرجال».
إن التمايز بين الذكورة والأنوثة في الحقل الصوفي بشكل عام موجود، لكنه ليس ظاهرًا كما في غيره من أنماط التدين ويمكن تجاوزه، وعدد النساء الصالحات بالنسبة للذكور قليل، إلا أنه يمكن القول، إن «تيار التصوف كان أكثر تقبلًا لحضور المرأة داخله، وعددهن يتجاوز كمًا وكيفًا النسبة التي يمثلنها بين جمهور الفقهاء»[4].
وقد شكّل جسد المرأة عائقًا أمام الولاية الصوفية فكان عليها «أن تنفي أنوثتها جمالًا وحملًا ودم حيض لترتقي لمراتب الصلاح»[3]، وعلى ذلك يكون عليها كشرط لدخول الولاية هو العمل على إمحاء ذلك الجسد. كما يوظف المتصوفة المرأة كرمز للحب، وييستخدمون صيغة التأنيث في التعبير عن الذات الإلهية، كما يتبين في تائية ابن الفارض على وجه المثال.
أما عند ابن عربي الذي يعد مرجعًا مهمًا للنسوية، وأفردت له نزهة براضة كتابًا بعنوان «الأنوثة في فكر ابن عربي»،تذهب فيه إلى أن ابن عربي أن الذكورة والأنوثة ليست من خصائص النوع الإنساني، فالأزواج خلقها الله في كل شيء، إلا أن ما يميز الإنسان ويعطيه مرتبة الإنسانية ويجعله يتسامى عن الحيواني فيكمن «في قدرته على المعرفة كخاصية يتقاسمها النساء والرجال. وعبر المعرفة، كخاصية إنسانية، يتبلور نموذج الإنسان الفعلي»[5].
ويرى ابن عربي أن الرجل والمرأة يشتركان في الإنسانية، ويقوم الوجود بأكمله على «الحب»، ويعزو ابن عربي حديث النبي (صلى الله عليه وسلم): «حبّب إلي من دنياكم النساء والطيب وجعلت قرة عيني بالصلاة» إلى أن النبي حُبّب إليه النساء ليس من ذاته إنما من لدن الله وتلقائه، فحب النبي لامرأته بحسب ما يقول ابن عربي هو «بحب الله إياه تخلق إلهي»، وعلى ذلك يكون حب المرأة حلقة وصل ما بين الله والإنسان، حتى يذهب ابن عربي إلى أن الله يتجلى في الإنسان وفي النساء أكثر منه في الرجال لما تحمله النساء من حسن وجمال وكأنه يرى فيها نعم الله وصفاته من رحمة ولطف وجمال، «ذلك ما لم يكل التقليد الإسلامي من تكراره، فالله جميل ويحب الجمال»[6]، وهذا ما لا يمكن تحققه إلا من خلال الحب الصوفي.
وأجاز ابن عربي إمامة المرأة في الصلاة، وكان يرى أن دليل ما ينص على حرمة ذلك لا وجود له، وأعطى للمرأة مكانة النفس والرجل مكانة العقل، ويرى أنه يجوز للعقل اتباع النفس حتى لا تتبع الهوى.
أما عن الزواج، فقد ذهبت كثير من المتصوفات إلى التعفف عنه، فهي التي تسعى إلى محو جسدها عبر المجاهدات تقربًا لله تعالى لا ترى الخير في منح جسدها للرجل، كما أن الزواج وتبعاته من طاعة زوج والإنجاب والأعمال المنزلية تحيلها عن العبادات وتبعدها عن العزلة، وبذلك شقّت المتصوفات نمطًا خاصًا يغاير النسوة في المجتمع، فقد تركت الإنجاب والنسج وغير ذلك من الأدوار التقليدية وصنعت لنفسها عالمًا خاصًا.
ولقد وجدت النساء المتصوفات في باب الكرامات ساحة للتنافس مع الرجل في إظهار ولايتها وصلاحها، واستطاعت كذلك التفوق عليه، وتروي القصص أن الحسن طرح سجادة على الماء ونادى رابعة لتصلي معه، وتعجبت منه حيث يعرض نفسه في سوق الدنيا، وطرحت سجادة على الهواء وأشارت عليه بأن يفعل كما فعلت فلم يستطع أن يحظى بمثل مقامها، فوعظته وحثّته أن يشغل نفسه بالعمل.
الحجاب
تذهب بعض الصوفيات في قضية الحجاب إلى أنه شكل من أشكال العرف والعادة ولا حكم شرعيًا ينص عليه، كما يذهب بعضها إلى أن الحجاب هو الحشمة، فهو للرجل والمرأة سيان، فالمهم هو اللباس المتواضع والخالي من الإثارة، ويستمر الجدل بينها في حكمه وطريقة ارتدائه لكن الاتفاق بينها ينص على أن هذا اللباس هو من محض رغبة المرأة لا بإرادة ذكر من أبيها أو زوجها وغيره.
ونجد في التاريخ الصوفي تحديًا جليًا للرجل في مسألة الحجاب، فقد كانت أخت الحلاج تكشف نصف وجهها، ذلك أنه لا يوجد رجل باستثناء الحلاج، ولو أنه غير موجود لكشفت عن كامل وجهها.
وتذهب الباحثة المتصوفة والنسوية ألفة يوسف في كتابها «ناقصات عقل ودين» إلى أن الحجاب متصل بظرف تاريخي، وقصد منه حماية نساء المسلمين وأمهات المؤمنين خاصة، كما أن الحجاب ليس مقدسًا بالمعنى المعهود، فقد كان عمر بن الخطاب يضرب الأَمَة التي كانت تلبس مثل الحرائر، ولو كان الغرض من الحجاب اتقاء الفتنة للزم الأَمَة كذلك.
يتضح بذلك كيف حقّق النمط الصوفي للمرأة خروجًا عن التنميط للدور التقليدي الذي فرض عليها، كما استطاعت التعبير عن مواجيدها وتوقها للخلاص الفردي بعيدًا عن المؤسسة الفقهية، وقد وجدت في هذا التدين فرصة للتنافس مع الرجل وكذلك التفوق عليه، هذا ما جعل منه مادة ثرية للنسويات لتقوية خطابهن وإضفاء الشرعية الدينية عليه.
كما أن النسوية باتخاذها للتصوف مرجعية لها، فإنها تعمل على حيازة الدنيوي والأخروي أو المقدس والمدنس، وتحقيق «العود الأبدي للحريم» بحسب اصطلاح شحاتة صيام، واستحضار القداسة القديمة حيث كانت الآلهة إناثًا، مما يجعل النسوية ترتدي مرة أخرى قناع الذات الدينية والدنيوية وذلك ما يتناسب مع تناقضات ما بعد الحداثة.
تدخل النسوية حاملة معها التصوف إلى ما بعد الحداثة لتقف على سطح التأويلات وتمتلك اللغة التي كرّسها الرجل لصالحه عبر التاريخ بحسب ما تعتقد، وتتقارب وحدة الوجود بموت الثنائيات ومن ثم الوصول إلى حالة سائلة تغيب فيها الحدود والمعالم.